الثالث: إن الحكم للأكثر، فإن كان من أرسله أكثر ممن وصله، فالحكم للإرسال، والعكس. الرابع: إن الحكم للأحفظ. وقد تعقب القول الأول ابن دقيق العيد، فقال: من حكى من أهل الحديث أو أكثرهم أنه إذا تعارض رواية مسند ومرسل، أو رافع وواقف،, ناقص وزائد، أن الحكم للزائد لم يصب في هذا الإطلاق، فإن ذلك ليس قانوناً مطرداً وبمراجعة أحكامهم الجزئية تعرف صواب ما نقول –وبهذا جزم الحافظ العلائي في "جامع التحصيل" فقال: كلام الأئمة المتقدمين في هذا الفن كعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى بن سعيد القطان، وأحمد بن حنبل، والبخاري، وأمثالهم، أنه لا يحكم في هذه المسألة بحكم كلي، بل عملهم في ذلك دائر على الترجيح بالنسبة إلى ما يقوى عند أحدهم في حديث وقول البخاري" الزيادة من الثقة مقبولة" إنما قاله حين سئل عن حديث "لا نكاح إلا بولي" وقد أرسله شعبة وسفيان – وهما جبلان في الحفظ، وأسنده إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي في آخرين، فقال البخاري: "الزيادة من الثقة مقبولة" وحكم لمن وصله. فالبخاري - رحمه الله – لم يحكم فيه بالاتصال من أجل كون الوصل زيادة، وإنما حكم للاتصال لمعان أخرى رجحت عنده حكم الموصول، منها أن يونس بن أبي إسحاق وابنه إسرائيل وعيسى رووه عن أبي إسحاق موصولاً، ولا شك أن آل الرجل أخص به من غيرهم، وقد وافقهم على ذلك أبو عوانة، وشريك النخعي، وزهير بن أمية، وتمام العشرة من أصحاب أبي إسحاق مع اختلاف مجالسهم في الأخذ عنه، وسماعهم إياه من لفظه، وأما رواية من أرسله – وهما شعبة وسفيان – فإنما أخذاه عن أبي إسحاق في مجلس واحد ... ولا يخفى رجحان ما أخذ من لفظ المحدث في مجالس متعددة على ما أخذ عنه عرضاً في محل واحد. هذا إذا قلنا: حفظ سفيان وشعبة في مقابل عدد الآخرين مع أن الشافعي يقول: العدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد. فتبين أن ترجيخ البخاري وصل هذا الحديث على إرساله لم يكن لمجرد أن الواصل معه زيادة ليست مع المرسل، بل بما ظهر من قرائن الترجيح ويزيد ذلك ظهوراً تقديمه للإرسال في مواضع أخرى، مثاله: ما رواه الثوري، عن محمد بن أبي بكر بن حزم عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبيه عن أم سلمة قالت: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لها: "إن شئت سبعت لك" ورواه مالك عن عبيد الله بن أبي بكر بن الحارث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأم سلمة ... قال البخاري في "تاريخه": الصواب قول مالك مع إرساله. فصوب الإرسال هنا لقرينة ظهرت له، وصوب الوصل هناك لقرينة ظهرت له، فتبين أنه ليس له عمل مطرد في ذلك. انظر "شرح الألفية" ١/١٦٥ وما بعدها للسخاوي، وشرح علل الترمذي ١/٤٢٦ وما بعدها. وبهذا تعلم خطأ من قوى القول الأول على إطلاقه ممن يتعاطى صناعة الحديث في عصرنا هذا، واتخذه قاعدة مطردة في كل حديث اختلف ثقتان في وصله وإرساله.