فقه الحديث:
بعد أن فرغنا من تحقيق القول في صحة الحديث ودفع إعلاله بالإدراج أنقل إلى
القارىء الكريم ما ذكره النووي رحمه الله في شرح الحديث: " قال القاضي لا خلاف
في جواز الكذب في هذه الصور واختلفوا في المراد بالكذب المباح فيها ما هو؟
فقالت طائفة: هو على إطلاقه وأجازوا قول ما لم يكن في هذه المواضيع للمصلحة
وقالوا: الكذب المذموم ما فيه مضرة واحتجوا بقول إبراهيم صلى الله عليه
وسلم: * (بل فعله كبيرهم) * و * (إني سقيم) * وقوله " إنها أختي "، وقول
منادي يوسف صلى الله عليه وسلم * (أيتها العير إنكم لسارقون) *. قالوا: ولا
خلاف أنه لو قصد ظالم قتل رجل هو عنده مختف وجب عليه الكذب في أنه لا يعلم أين
هو. وقال آخرون منهم الطبري: لا يجوز الكذب في شيء أصلا، قالوا: وما جاء
من الإباحة في هذا المراد به التورية واستعمال المعاريض لا صريح الكذب مثل أن
يعد زوجته أن يحسن إليها ويكسوها كذا وينوي: إن قدر الله ذلك.
وحاصله أن يأتي بكلمات محتملة يفهم المخاطب منها ما يطيب قلبه وإذا سعى في
الإصلاح نقل عن هؤلاء إلى هؤلاء كلاما جميلا ومن هؤلاء إلى هؤلاء كذلك وورى،
وكذا في الحرب بأن يقول لعدوه: مات إمامكم الأعظم وينوي إمامهم في الأزمان
الماضية أو غدا يأتينا مدد. أي طعام ونحوه، هذا من المعاريض المباحة، فكل
هذا جائز. وتأولوا في قصة إبراهيم ويوسف وما جاء من هذا على المعاريض.
والله أعلم ".
قلت: ولا يخفى على البصير أن قول الطائفة الأولى هو الأرجح والأليق بظواهر
هذه الأحاديث وتأويلها بما تأولته الطائفة الأخرى من حملها على المعاريض مما
لا يخفى بعده، لاسيما في الكذب في الحرب.
فإنه أوضح من أن يحتاج إلى التدليل على جوازه ولذلك قال الحافظ في " الفتح "
(٦ / ١١٩) : " قال النووي: الظاهر إباحة حقيقة الكذب في الأمور الثلاثة لكن
التعريض أولى. وقال ابن العربي: الكذب في الحرب من المستثنى الجائز بالنص
رفقا بالمسلمين لحاجتهم إليه وليس للعقل فيه مجال ولو كان تحريم الكذب بالعقل
ما