وجنح آخرون: إلى الترجيح، فقالوا: يترجح حديث ابن مسعود بأنه حكى لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، بخلاف زيد بن أرقم فلم يحكه. وقال آخرون: إنما أراد ابن مسعود رجوعه الثاني، وقد ورد أنه قدم المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم يتجهز إلى بدر، وفي "مستدرك الحاكم" من طريق أبي إسحاق، عن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن مسعود قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ثمانين رجلاً ... فذكر الحديث بطوله، وفي آخره: فتعجل عبد الله بن مسعود فشهد بدراً. وفي "السير" لابن إسحاق: إن المسلمين بالحبشة لما بلغهم أن النبي صلى الله عليه وسلم هاجر إلى المدينة، رجع منهم إلى مكة ثلاثة وثلاثون رجلاً، فمات منهم رجلان بمكة وحبس منهم سبعة، وتوجه إلى المدينة أربعة وعشرون، فشهدوا بدراً. فعلى هذا كان ابن مسعود من هؤلاء، فظهر أن اجتماعه بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه كان بالمدينة، وإلى هذا الجمع نحا الخطابي، ويقوي هذا الجمع رواية كلثوم "عند النسائي ٣/١٨" فإنها ظاهرة في أن كلاً من ابن مسعود وزيد بن أرقم حكى أن الناسخ قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} . وأما قول ابن حبان "انظر ص ٢٦": كان نسخ الكلام بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين، قال: ومعنى قول زيد بن أرقم "كنا نتكلم" أي: كان قومي يتكلمون، لأن قومه كانوا يصلون قبل الهجرة مع مصعب بن عمير الذي كان يعلمهم القرآن، فلما نسخ تحريم الكلام بمكة، بلغ ذلك أهل المدينة فتركوه، فهو متعقب بأن الآية مدنية باتفاق، وبأن إسلام الأنصار، وتوجه مصعب بن عمير إليهم إنما كان قبل الهجرة بسنة واحدة، وبأن في حديث زيد بن أرقم "كنا نتكلم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم" كذا أخرجه الترمذي، فانتفى أن يكون المراد الأنصار الذين كانوا يصلون بالمدينة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم. وأجاب ابن حبان في موضع آخر: بأن زيد بن أرقم أراد بقوله "كنا نتكلم" من كان يصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم بمكة من المسلمين. وهو متعقب أيضاً بأنهم ما كانوا بمكة يجتمعون إلا نادراً، وبما روى الطبراني"٧٨٥٠" من حديث أبي أمامة قال: "كان الرجل إذا دخل المسجد فوجدهم يصلون سأل الذي إلى جنبه، فيخبره بما فاته فيقضي، ثم يدخل معهم، حتى جاء معاذ يوماً فدخل في الصلاة" فذكر الحديث، وهذا كان بالمدينة قطعاً لأن أبا أمامة ومعاذ بن جبل إنما أسلما بها. قلت: في سنده عبيد الله بن زحر وعلي بن يزيد وهما ضعيفان. وانظر "نيل الأوطار" ٢/٣٦١- ٣٦٣. والإعتبار ص ١٤٢- ١٤٩. وانظر الجوهر النقي ٢/٣٦٠ وما بعدها.