للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَلَامِنَا أَيُّهَا (١) الثَّلَاثَةُ، فَجَعَلْتُ أَخْرُجُ إِلَى السُّوقِ، وَلَا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ، وَتَنَكَّرَ لَنَا النَّاسُ حَتَّى مَا هُمْ بِالَّذِينَ نَعْرِفُ، وَتَنَكَّرَ لَنَا الْحِيطَانُ حَتَّى مَا هِيَ بِالْحِيطَانِ الَّتِي نَعْرِفُ، وَتَنَكَّرَتْ لَنَا الْأَرْضُ، حَتَّى مَا هِيَ بِالْأَرْضِ الَّتِي نَعْرِفُ، وَكُنْتُ أَقْوَى أَصْحَابِي، فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَطُوفُ فِي الْأَسْوَاقِ، فَآتِي الْمَسْجِدَ، وَآتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَأَقُولُ: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِالسَّلَامِ، فَإِذَا قُمْتُ أُصَلِّي إِلَى سَارِيَةٍ، وَأَقْبَلْتُ عَلَى صَلَاتِي، نَظَرَ إِلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُؤَخَّرِ عَيْنَيْهِ، وَإِذَا نَظَرْتُ إِلَيْهِ، أَعْرَضَ عَنِّي، وَاشْتَكَى (٢) صَاحِبَايَ، فَجَعَلَا يبكيان الليل والنهار، ولا يطلعان رؤوسهما.

قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا أَطُوفُ فِي الْأَسْوَاقِ، إِذَا رَجُلٌ نَصْرَانِيٌّ قَدْ جَاءَ بِطَعَامٍ لَهُ يَبِيعُهُ، يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ إِلَيَّ، فَأَتَانِي بِصَحِيفَةٍ مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ (٣) ،فَإِذَا فِيهَا: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ وَأَقْصَاكَ وَلَسْتَ بِدَارِ هَوَانٍ وَلَا مَضْيَعَةٍ، فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ (٤) . فَقُلْتُ: هَذَا أَيْضًا مِنَ الْبَلَاءِ، فَسَجَرْتُ لها التنور، فأحرقتها فيه (٥) .


(١) بالرفع، وهو موضع نصب على الاختصاص، أي: متخصصين بذلك دون بقية الناس.
(٢) في البخاري و "المصنف" وغيرهما: "فاستكان صاحباي" أي: خضعا.
(٣) في "الفتح": هو جبلة بن الأيهم، جزم بذلك ابن عائذ، وعند الواقذي: الحارث بن أبي شمر، ويقال: جبلة بن الأيهم.
(٤) من المواساة، وزاد في رواية ابن أبي شيبة، "في أموالنا" فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، قد طمع فيّ أهل الكفر.
(٥) قال الحافظ ٨/١٢١: ودلَّ صنيع كعب هذا على قوة إيمانه ومحبته لله ولرسوله، وإلا فمن صار في مثل حاله من الهجر والإعراض قد يضعف عن احتمال ذلك، وتحمله الرغبة في الجاه والمال على هِجران من هجره، ولا سيما مع أمنه من الملك الذي استدعاه إليه أنه لا يكرهه على فِراق دينه، لكن لما احتمل عنده أنه لا يأمن من الافتتان حسم المادة، وأحرق الكتاب ومنع الجواب، هذا مع كونه من الشعراء الذين طبعت نفوسهم على الرغبة، ولا سيما بعد الاستدعاء والحث على الوصول إلى المقصود من الجاه والمال، ولا سيما والذي استدعاه قريبه ونسيبه، ومع ذلك فغلب عليه دينه، وقوي عنده يقينه، ورجح ما هو فيه من النكد والتعذيب على ما دُعي إليه من الراحة والنعيم، حباً في الله ورسوله، كما قال صلى الله عليه وسلم: "وأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما".

<<  <  ج: ص:  >  >>