أَي: لم يَأْمر عمر أنسا بِإِعَادَة صلَاته تِلْكَ، فَدلَّ على أَنه يجوز وَلَكِن يكره.
وَاعْلَم أَن الْعلمَاء اخْتلفُوا فِي جَوَاز الصَّلَاة على الْمقْبرَة، فَذهب أَحْمد إِلَى تَحْرِيم الصَّلَاة فِي الْمقْبرَة، وَلم يفرق بَين المنبوشة وَغَيرهَا، وَلَا بَين أَن يفرش عَلَيْهَا شَيْء يَقِيه من النَّجَاسَة أم لَا، وَلَا بَين أَن تكون بَين الْقُبُور أَو فِي مَكَان مُنْفَرد عَنْهَا، كالبيت والعلو، وَقَالَ أَبُو ثَوْر: لَا يصلى فِي حمام وَلَا مَقْبرَة على ظَاهر الحَدِيث، يَعْنِي قَوْله: (الأَرْض كلهَا مَسْجِد إِلَّا الْمقْبرَة وَالْحمام) . وَذهب الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة وَالْأَوْزَاعِيّ إِلَى كَرَاهَة الصَّلَاة فِي الْمقْبرَة، وَفرق الشَّافِعِي بَين الْمقْبرَة المنبوشة، وَغَيرهَا فَقَالَ: إِذا كَانَت مختلطة التُّرَاب بلحوم الْمَوْتَى وصديدهم وَمَا يخرج مِنْهَا لم يجز الصَّلَاة فِيهَا للنَّجَاسَة، فَإِن صلى رجل فِي مَكَان طَاهِر مِنْهَا أَجْزَأته صلَاته. وَقَالَ الرَّافِعِيّ: أما الْمقْبرَة فَالصَّلَاة فِيهَا مَكْرُوهَة بِكُل حَال، وَلم ير مَالك بِالصَّلَاةِ فِي الْمقْبرَة بَأْسا، وَحكى أَبُو مُصعب عَن مَالك كَرَاهَة الصَّلَاة فِي الْمقْبرَة كَقَوْل الْجُمْهُور، وَذهب أهل الظَّاهِر إِلَى تَحْرِيم الصَّلَاة فِي الْمقْبرَة، سَوَاء كَانَت مَقَابِر الْمُسلمين أَو الْكفَّار، وَحكى ابْن حزم عَن خَمْسَة من الصَّحَابَة النَّهْي عَن ذَلِك وهم: عمر وَعلي وَأَبُو هُرَيْرَة وَأنس وَابْن عَبَّاس، رَضِي اتعالى عَنْهُم. وَقَالَ: مَا نعلم لَهُم مُخَالفا من الصَّحَابَة، وَحَكَاهُ عَن جمَاعَة من التَّابِعين إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَنَافِع بن جُبَير بن مطعم وَطَاوُس وَعَمْرو بن دِينَار وخيثمة وَغَيرهم.
قلت: قَوْله: لَا نعلم لَهُم مُخَالفا من الصَّحَابَة، معَارض بِمَا حَكَاهُ الْخطابِيّ فِي (معالم السّنَن) عَن عبد اللَّه بن عمر أَنه رخص فِي الصَّلَاة فِي الْمقْبرَة، وَحكي أَيْضا عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه صلى فِي الْمقْبرَة. وَفِي (شرح التِّرْمِذِيّ) : حكى أَصْحَابنَا اخْتِلَافا فِي الْحِكْمَة فِي النَّهْي عَن الصَّلَاة فِي الْمقْبرَة، فَقيل: الْمَعْنى فِيهِ مَا تَحت مُصَلَّاهُ من النَّجَاسَة، وَقد قَالَ الرَّافِعِيّ: لَو فرش فِي المجزرة والمزبلة شَيْئا وَصلى عَلَيْهِ صحت صلَاته، وَبقيت الْكَرَاهِيَة لكَونه مُصَليا على نَجَاسَة وَإِن كَانَ بَينهمَا حَائِل، وَقَالَ القَاضِي حُسَيْن: إِنَّه لَا كَرَاهَة مَعَ الْفرش على النَّجَاسَة مُطلقًا. وَحكى ابْن الرّفْعَة فِي (الْكِفَايَة) : أَن الَّذِي دلّ عَلَيْهِ كَلَام القَاضِي: أَن الْكَرَاهَة لحُرْمَة الْمَوْتَى، وعَلى كل تَقْدِير من هذَيْن الْمَعْنيين، فَيَنْبَغِي أَن تقيد الْكَرَاهَة بِمَا إِذا حَاذَى الْمَيِّت، أما إِذا وقف بَين الْقُبُور بِحَيْثُ لَا يكون تَحْتَهُ ميت وَلَا نَجَاسَة فَلَا كَرَاهَة، إِلَّا أَن ابْن الرّفْعَة بعد أَن حكى الْمَعْنيين السَّابِقين قَالَ: لَا فرق فِي الْكَرَاهَة بَين أَن يُصَلِّي على الْقَبْر أَو بجانبه. أَو إِلَيْهِ، قَالَ: وَمِنْه يُؤْخَذ أَنه: تكره الصَّلَاة بِجَانِب النَّجَاسَة وَخَلفهَا.
٧٢٤٨٨ - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى قَالَ حدّثنا يَحْيَى عنْ هِشَامٍ قَالَ أخبرنِي أبي عنْ عائِشَةَ أنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ فَذَكَرَتَا ذَلِكَ للنَّبيِّ فَقَالَ إنَّ أُولَئِكِ إذَا كانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِداً وَصَوَّرُوا فيهِ تَلْكَ الصُّوَرَ فأُولَئِكِ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ ايَوْمَ القِيَامَةِ. (الحَدِيث ٧٢٤ أَطْرَافه فِي: ٤٣٤، ١٤٣١، ٨٧٨٣) .
وَجه مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لعن االيهود) ، من حَيْثُ إِنَّه يُوَافقهُ، وَذَلِكَ أَنه لعن الْيَهُود لكَوْنهم اتَّخذُوا قُبُور أَنْبِيَائهمْ مَسَاجِد، وَفِي هَذَا الحَدِيث ذمّ النَّصَارَى بِشَيْء أعظم من اللَّعْن فِي كَونهم كَانُوا إِذا مَاتَ الرجل الصَّالح فيهم بنوا على قَبره مَسْجِدا وصوروا فِيهِ تصاوير.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن الْمثنى، بِفَتْح النُّون الْمُشَدّدَة بعد الثَّاء الْمُثَلَّثَة. الثَّانِي: يحيى بن سعيد الْقطَّان. الثَّالِث: هِشَام بن عُرْوَة. الرَّابِع: أَبوهُ عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. الْخَامِس: عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ. رَضِي اتعالى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من هَذَا الْوَجْه: أَخْبَرتنِي عَائِشَة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي هِجْرَة الْحَبَشَة عَن مُحَمَّد بن الْمثنى، وَأَيْضًا أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن زُهَيْر بن حَرْب، وَالنَّسَائِيّ عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم، ثَلَاثَتهمْ عَن يحيى بن سعيد بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَن أم حَبِيبَة) ، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة أم الْمُؤمنِينَ اسْمهَا: رَملَة، بِفَتْح الرَّاء على الْأَصَح بنت أبي سُفْيَان صَخْر الأموية، هَاجَرت مَعَ زَوجهَا عبد اللَّه بن جحش، بِتَقْدِيم الْجِيم على الْحَاء الْمُهْملَة إِلَى الْحَبَشَة، فَتوفي هُنَاكَ فَتَزَوجهَا رَسُول الله وَهِي هُنَاكَ سنة سِتّ من الْهِجْرَة، وَكَانَ النَّجَاشِيّ أمهرها من عِنْده عَن رَسُول ا، وبعثها إِلَيْهِ، وَكَانَت من السابقات إِلَى الْإِسْلَام، توفيت سنة أَربع وَأَرْبَعين بِالْمَدِينَةِ على الْأَصَح. قَوْله: (وَأم سَلمَة) ، فتح اللَّام،