بَيَان الْمعَانِي وَالْبَيَان فِيهِ: حذف الْفَاعِل لكَونه مُتَعَيّنا للْفِعْل أَو لشهرته، وَهُوَ فِي قَوْله: (أريت) إِذْ أَصله: أَرَانِي الله النَّار، وَفِيه: الْجُمْلَة الاستئنافية الَّتِي تدل على السُّؤَال وَالْجَوَاب، وَهُوَ قَوْله: (يكفرن) . وَقَالَ بعض الشَّارِحين: هَذَا جَوَاب سُؤال مَذْكُور فِي الحَدِيث الْمَذْكُور فِي كتاب الْكُسُوف، التَّقْدِير: فَبِمَ يَا رَسُول الله؟ قَالَ: يكفرن، أَي: هن يكفرن. وَفِيه: ترك الْمعِين إِلَى غير الْمعِين ليعم كل مُخَاطب، وَهُوَ قَوْله: لَو أَحْسَنت كَمَا فِي قَوْله: (بشر الْمَشَّائِينَ فِي ظلم اللَّيْل إِلَى الْمَسَاجِد بِالنورِ التَّام يَوْم الْقِيَامَة) وَفِيه: أَن التنكير فِيهِ للتحقير، كَمَا فِي قَوْله: (شَيْئا) ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {ان نظن إِلَّا ظنا} (الجاثية: ٣٢) [/ ح.
بَيَان استنباط الْفَوَائِد: مِنْهَا: تَحْرِيم كفران الْحُقُوق وَالنعَم إِذْ لَا يدْخل النَّار إلَاّ بارتكاب حرَام. وَقَالَ النَّوَوِيّ: توعُدُه على كفران العشير وكفران الْإِحْسَان بالنَّار يدل على أَنَّهُمَا من الْكَبَائِر. وَقَالَ ابْن بطال: فِيهِ دَلِيل على أَن العَبْد يعذب على جحد الاحسان وَالْفضل وشكر النعم. قَالَ: وَقد قيل: إِن شكر الْمُنعم وَاجِب. وَمِنْهَا: الدّلَالَة على عظم حق الزَّوْج، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَو أمرت أحدا أَن يسْجد لأحد لأمرت الْمَرْأَة أَن تسْجد لزَوجهَا) . وَلأَجل هَذَا الْمَعْنى خص كفران العشير من بَين أَنْوَاع الذُّنُوب، وَقرن فِيهِ حق الزَّوْج على الزَّوْجَة بِحَق الله، فَإِذا كفرت الْمَرْأَة حق زَوجهَا، وَقد بلغ حَقه عَلَيْهَا هَذِه الْغَايَة، كَانَ ذَلِك دَلِيلا على تهاونها بِحَق الله، فَلذَلِك أطلق عَلَيْهَا الْكفْر، لكنه كفر لَا يخرج عَن الْملَّة. وَمِنْهَا: فِيهِ وعظ الرئيس المرؤوس وتحريضه على الطَّاعَة. وَمِنْهَا: فِيهِ مُرَاجعَة المتعلم الْعَالم، وَالتَّابِع الْمَتْبُوع فِيمَا قَالَه إِذا لم يظْهر لَهُ مَعْنَاهُ. وَمِنْهَا: فِيهِ أَن النَّار، أَي: جَهَنَّم الَّتِي هِيَ دَار عَذَاب الْآخِرَة مخلوقة الْيَوْم، وَهُوَ مَذْهَب أهل السّنة. وَمِنْهَا: فِيهِ الدّلَالَة على جَوَاز إِطْلَاق الْكفْر على كفر النِّعْمَة وَجحد الْحق. وَمِنْهَا: فِيهِ التَّنْبِيه على أَن الْمعاصِي تنقص الْإِيمَان وَلَا تخرج إِلَى الْكفْر الْمُوجب للخلود فِي النَّار لأَنهم ظنُّوا أَنه الْكفْر بِاللَّه، فأجابهم عَلَيْهِ السَّلَام بِأَنَّهُ أَرَادَ كفرهم حق أَزوَاجهنَّ. وَمن فَوَائِد حَدِيث مُسلم: أَن اللَّعْن من الْمعاصِي. قَالَ النَّوَوِيّ، رَحمَه الله: فِيهِ أَنه كَبِيرَة فَإِن قَالَ: تكثرن اللَّعْن، وَالصَّغِيرَة إِذا كثرت صَارَت كَبِيرَة، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: (لعن الْمُؤمن كقتله) . قَالَ: وَاتفقَ الْعلمَاء على تَحْرِيم اللَّعْن، وَلَا يجوز لعن أحد بِعَيْنِه، مُسلما أَو كَافِرًا أَو دَابَّة، إلَاّ بِعلم بِنَصّ شَرْعِي أَنه مَاتَ على الْكفْر، أَو يَمُوت عَلَيْهِ، كَأبي جهل وإبليس عَلَيْهِمَا اللَّعْنَة، واللعن بِالْوَصْفِ لَيْسَ بِحرَام: كلعن الْوَاصِلَة وَالْمسْتَوْصِلَة، وآكل الرِّبَا وشبههم. واللعن فِي اللُّغَة: الطَّرْد والإبعاد. وَفِي الشَّرْع: الإبعاد من رَحْمَة الله تَعَالَى. قَوْله: (ناقصات عقل) ، اخْتلفُوا فِي الْعقل، فَقيل: هُوَ الْعلم، لِأَن الْعقل وَالْعلم فِي اللُّغَة وَاحِد، وَلَا يفرقون بَين قَوْلهم: عقلت وَعلمت، وَقيل: الْعقل بعض الْعُلُوم الضرورية، وَقيل: قُوَّة يُمَيّز بهَا بَين حقائق المعلومات. وَاخْتلفُوا فِي مَحَله، فَقَالَ المتكلمون هُوَ فِي الْقلب. وَقَالَ بعض الْعلمَاء: هُوَ فِي الرَّأْس، وَالله تَعَالَى أعلم.
٢٢ - (بَاب المَعَاصِي مِنْ أمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا يُكَفَّرُ صَاحِبُهَا بِارْتِكابِهَا إلَاّ بِالشِّرْكِ لِقَوْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جاهِليَّةٌ وقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إنّ الله لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} .)
الْكَلَام فِيهِ على وُجُوه: الأول: وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهر، لِأَن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول كفران العشير، وَهُوَ أَيْضا من جملَة الْمعاصِي. الثَّانِي: يجوز فِي بَاب التَّنْوِين وَالْإِضَافَة إِلَى الْجُمْلَة الَّتِي بعده، لِأَن قَوْله: (الْمعاصِي) مُبْتَدأ، وَقَوله: (من أَمر الْجَاهِلِيَّة) ، خَبره وعَلى كل تَقْدِير تَقْدِيره: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن الْمعاصِي من أُمُور الْجَاهِلِيَّة. الثَّالِث: وَجه التَّرْجَمَة هُوَ الرَّد على الرافضة والأباضية وَبَعض الْخَوَارِج فِي قَوْلهم: إِن المذنبين من الْمُؤمنِينَ مخلدون فِي النَّار بِذُنُوبِهِمْ، وَقد نطق الْقُرْآن بتكذيبهم فِي مَوَاضِع، مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {إِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ} (النِّسَاء: ٤٨ و ١١٦) الْآيَة. الرَّابِع: قَوْله: (الْمعاصِي) ، جمع مَعْصِيّة، وَهِي مصدر ميمي. وَفِي (الصِّحَاح) وَقد عَصَاهُ، بِالْفَتْح، يعصيه عصيا ومعصية. وَفِي الشَّرْع: هُوَ مُخَالفَة الشَّارِع بترك وَاجِب أَو فعل محرم، وَهُوَ أَعم من الْكَبَائِر والصغائر. و: (الْجَاهِلِيَّة) : زمَان الفترة قبل الْإِسْلَام، سميت بذلك لِكَثْرَة جهالاتهم. قَوْله (وَلَا يكفر) ، بِضَم الْيَاء وَتَشْديد الْفَاء الْمَفْتُوحَة، أَي: لَا ينْسب إِلَى الْكفْر، وَفِي رِوَايَة أبي الْوَقْت، بِفَتْح الْيَاء وَسُكُون الْقَاف. قَوْله: (بارتكابها) أَي: بارتكاب الْمعاصِي، وَأَرَادَ بالارتكاب الِاكْتِسَاب
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute