تَقْدِيره: صلوا الصَّلَاة وأدوها فِي الرّحال، وَهُوَ جمع: رَحل، وَهُوَ مسكن الرجل وَمَا يستصحبه من الأناث. أَي: صلوها فِي مَنَازِلكُمْ. قَوْله: (فَنظر الْقَوْم) أَي: نظر إِنْكَار على تَغْيِير وضع الْأَذَان وتبديل الحيعلة بذلك، وَفِي رِوَايَة الحَجبي: كَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا ذَلِك، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (استنكروا ذَلِك) ، على مَا ذَكرنَاهَا آنِفا. قَوْله: (فَقَالَ) أَي: ابْن عَبَّاس، فعل هَذَا أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا أَمر الْمُؤَذّن أَن يَقُول: الصَّلَاة فِي الرّحال، مَوضِع: حَيّ على الصَّلَاة. قَوْله: (من هُوَ خير مِنْهُ) كلمة: من، فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ فَاعل قَوْله: (فعل) ، وَالضَّمِير فِي: مِنْهُ، يرجع إِلَى ابْن عَبَّاس، وَمَعْنَاهُ: أَمر بِهِ من هُوَ خير من ابْن عَبَّاس. وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: مِنْهُم، وَوَجهه أَن يرجع الضَّمِير فِيهِ إِلَى الْمُؤَذّن وَالْقَوْم جَمِيعًا. وَقَالَ بَعضهم: وَأما رِوَايَة الْكشميهني فَفِيهَا نظر، وَلَعَلَّ من أذن كَانُوا جمَاعَة، أَو أَرَادَ جنس المؤذنين. قلت: فِي نظره نظر، وتأويله بِالْوَجْهَيْنِ غير صَحِيح. أما الأول: فَلم يثبت أَن من أذن كَانُوا جمَاعَة، وَهَذَا احْتِمَال بعيد، لِأَن الْأَذَان بِالْجَمَاعَة مُحدث. وَأما الثَّانِي، فَلِأَن الْألف وَاللَّام فِي: الْمُؤَذّن، للْعهد، فَكيف يجوز أَن يُرَاد الْجِنْس وَفِي رِوَايَة الحَجبي: (من هُوَ خير مني) ، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة مُسلم وَأبي دَاوُد. قَوْله: (وَإِنَّهَا عَزمَة) أَي: إِن الْجُمُعَة عَزمَة، بِسُكُون الزَّاي، أَي: وَاجِبَة متحتمة، وَجَاء فِي بعض طرقه: إِن الْجُمُعَة عَزمَة. فَإِن قلت: لَمْ يسْبق ذكر الْجُمُعَة فَكيف يُعِيدهُ إِلَيْهَا؟ قلت: قَوْله: (خَطَبنَا) ، يدل على أَنهم كَانُوا فِي الْجُمُعَة، وَقد صرح بذلك فِي رِوَايَة أبي دَاوُد، حَيْثُ قَالَ: (إِن الْجُمُعَة عَزمَة) ، قَوْله فِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (أَن أحرجكم) ، بِالْحَاء الْمُهْملَة أَي: كرهت أَن أشق عَلَيْكُم بإلزامكم السَّعْي إِلَى الْجُمُعَة فِي الطين والمطر، ويروى: (أَن أخرجكم) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة من الْإِخْرَاج، ويروى: (كرهت أَن أؤثمكم) أَي: أكون سَببا لاكتسابكم الْإِثْم عِنْد ضيق صدوركم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ التَّيْمِيّ: رخص الْكَلَام فِي الْأَذَان جمَاعَة مستدلين بِهَذَا الحَدِيث مِنْهُم: أَحْمد بن حَنْبَل. وَحكى ابْن الْمُنْذر الْجَوَاز مُطلقًا عَن عُرْوَة وَعَطَاء وَالْحسن وَقَتَادَة، وَعَن النَّخعِيّ وَابْن سِيرِين وَالْأَوْزَاعِيّ الْكَرَاهَة، وَعَن الثَّوْريّ الْمَنْع، وَعَن أبي حنيفَة وصاحبيه خلاف الأولى، وَعَلِيهِ يدل كَلَام الشَّافِعِي وَمَالك. وَعَن إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه: يكره إلَاّ أَن كَانَ يتَعَلَّق بِالصَّلَاةِ، وَاخْتَارَهُ ابْن الْمُنْذر وَفِيه: دلَالَة على فَرضِيَّة الْجُمُعَة، وَأبْعد بعض الْمَالِكِيَّة حَيْثُ قَالَ: إِن الْجُمُعَة لَيست بِفَرْض، وَإِنَّمَا الْفَرْض الظّهْر أَو مَا يَنُوب مَنَابه، وَالْجَمَاعَة على خِلَافه، وَقَالَ ابْن التِّين: وَحكى ابْن أبي صفرَة عَن (موطأ ابْن وهب) عَن مَالك: إِن الْجُمُعَة سنة. قَالَ: وَلَعَلَّه يُرِيد فِي السّفر، وَلَا يحْتَج بِهِ. وَفِيه: تَخْفيف أَمر الْجَمَاعَة فِي الْمَطَر وَنَحْوه من الْأَعْذَار وَإِنَّهَا متأكدة إِذا لم يكن عذر، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِيه: أَن يُقَال: هَذِه الْكَلِمَة يَعْنِي: الصَّلَاة فِي الرّحال. فِي نفس الْأَذَان. قلت: أَخذه من كَلَام النَّوَوِيّ، فَإِنَّهُ قَالَ: هَذِه الْكَلِمَة تقال فِي نفس الْأَذَان، وَيرد عَلَيْهِ حَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، الْآتِي فِي بَاب الْأَذَان للْمُسَافِر: إِنَّهَا تقال بعده، وَنَصّ الشَّافِعِي على أَن الْأَمريْنِ جائزان، وَلَكِن بعده أحسن لِئَلَّا ينخرم نظم الْأَذَان. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ: لَا يَقُول إلَاّ بعد الْفَرَاغ. قَالَ: وَهُوَ ضَعِيف مُخَالف لصريح حَدِيث ابْن عَبَّاس. قلت: الْأَمْرَانِ جائزان، وَبعد الْفَرَاغ أحسن كَمَا ذكرنَا، وَكَلَام النَّوَوِيّ يدل على أَنَّهَا تزاد مُطلقًا إِمَّا فِي أَثْنَائِهِ وَإِمَّا بعده، لَا أَنَّهَا بدل من الحيعلة. قلت: حَدِيث ابْن عَبَّاس لم يسْلك مَسْلَك الْأَذَان، أَلا ترى أَنه قَالَ: فَلَا تقل: حَيّ على الصَّلَاة، قل: صلوا فِي بُيُوتكُمْ، وَإِنَّمَا أَرَادَ إِشْعَار النَّاس بِالتَّخْفِيفِ عَنْهُم للْعُذْر، كَمَا فعل فِي التثويب لِلْأُمَرَاءِ وَأَصْحَاب الولايات، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ورد فِي حَدِيث ابْن عمر: أخرجه البُخَارِيّ، وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة أخرجه ابْن عدي فِي (الْكَامِل) أَنه إِنَّمَا يُقَال بعد فرَاغ الْأَذَان.
١١ - (بابُ أَذانِ الأعْمَى إذَا كانَ لهُ مَنْ يُخْبِرِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَذَان الْأَعْمَى، إِذا كَانَ عِنْده من يُخبرهُ بِدُخُول الْوَقْت، يَعْنِي يجوز أَذَانه حِينَئِذٍ، وَمَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة وَابْن الْمُنْذر عَن ابْن مَسْعُود وَابْن الزبير وَغَيرهمَا أَنهم كَرهُوا أَن يكون الْمُؤَذّن أعمى، مَحْمُول على مَا إِذا لم يكن عِنْده من يُخبرهُ بِدُخُول الْوَقْت، وَنقل النَّوَوِيّ عَن أبي حنيفَة: أَن أَذَان الْأَعْمَى لَا يَصح قلت: هَذَا غلط لم يقل بِهِ أَبُو حنيفَة، وَإِنَّمَا ذكر أَصْحَابنَا أَنه يكره ذكره فِي (الْمُحِيط) وَفِي (الذَّخِيرَة) و (الْبَدَائِع) : غَيره أحب، فَكَأَن وَجه الْكَرَاهَة لأجل عدم قدرته على مُشَاهدَة دُخُول الْوَقْت، وَهُوَ فِي الأَصْل مَبْنِيّ على الْمُشَاهدَة.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute