للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

فِيهِ فَضِيلَة الدَّوَام على الْعَمَل والحث على الْعَمَل الَّذِي يَدُوم وَالْعَمَل الْقَلِيل الدَّائِم خير من الْكثير الْمُنْقَطع، لِأَن بدوام الْقَلِيل تدوم الطَّاعَة وَالذكر، والمراقبة وَالنِّيَّة والأخلاص والإقبال على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويثمر الْقَلِيل الدَّائِم بِحَيْثُ يزِيد على الْكثير الْمُنْقَطع أضعافا كَثِيرَة. الرَّابِع: فِيهِ بَيَان شَفَقَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورأفته بأمته، لِأَنَّهُ أرشدهم إِلَى مَا يصلحهم، وَهُوَ مَا يُمكنهُم الدَّوَام عَلَيْهِ بِلَا مشقة، لِأَن النَّفس تكون فِيهِ أنشط، وَيحصل مِنْهُ مَقْصُود الْأَعْمَال وَهُوَ الْحُضُور فِيهَا والدوام عَلَيْهَا، بِخِلَاف مَا يشق عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ تعرض لِأَن يتْرك كُله أَو بعضه، أَو يَفْعَله بكلفة فيفوته الْخَيْر الْعَظِيم. وَقَالَ أَبُو الزِّنَاد والمهلب: إِنَّمَا قَالَه عَلَيْهِ السَّلَام خشيَة الملال اللَّاحِق، وَقد ذمّ الله من الْتزم فعل الْبر ثمَّ قطعه بقوله: {ورهبانية ابتدعوها مَا كتبناها عَلَيْهِم إِلَّا ابْتِغَاء رضوَان الله فَمَا رعوها حق رعايتها} (الْحَدِيد: ٥٧) أَلا ترى أَن عبد الله بن عَمْرو نَدم على مُرَاجعَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالتَّخْفِيفِ عَنهُ لما ضعف، وَمَعَ ذَلِك لم يقطع الَّذِي الْتَزمهُ. الْخَامِس: فِيهِ دَلِيل لِلْجُمْهُورِ على أَن صَلَاة جَمِيع اللَّيْل مَكْرُوهَة، وَعَن جمَاعَة من السّلف لَا بَأْس بِهِ. قَالَ النَّوَوِيّ: وَقَالَ القَاضِي: كرهه مَالك مرّة، وَقَالَ: لَعَلَّه يَصح مَغْلُوبًا، وَفِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُسْوَة. ثمَّ قَالَ: لَا بَأْس بِهِ مَا لم يضر ذَلِك بِصَلَاة الصُّبْح، وَإِن كَانَ يَأْتِيهِ الصُّبْح وَهُوَ نَائِم فَلَا، وَإِن كَانَ بِهِ فتور وكسل فَلَا بَأْس بِهِ.

٣٣ - (بابُ زِيَادَةِ الإيمَانِ ونُقْصَانِهِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان زِيَادَة الْإِيمَان ونقصانه، و: بَاب، مَرْفُوع مُضَاف قطعا. وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول أحبية دوَام الدّين إِلَى الله تَعَالَى، وَالْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب زِيَادَة الْإِيمَان ونقصانه، فَلَا شكّ أَن يزْدَاد الْإِيمَان بدوام العَبْد على أَعمال الدّين، وَينْقص بتقصيره فِي الدَّوَام، سِيمَا هَذَا على مَذْهَب البُخَارِيّ وَجَمَاعَة من الْمُحدثين، وَأما على قَول من لَا يَقُول بِزِيَادَة الْإِيمَان ونقصانه، فَإِنَّهُ أَيْضا يُوجد الزِّيَادَة بالدوام وَالنَّقْص بالتقصير فِيهِ. ولكنهما يرجعان إِلَى صفة الْإِيمَان لَا إِلَى ذَاته، كَمَا عرف فِي مَوْضِعه.

وقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وزِدْنَاهُمْ هُدًى} {ويَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إيمَانا} وقالَ {الْيَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فَإذَا تَرَكَ شَيْئا مِنَ الْكَمَالِ فهُوَ نَاقِصٌ.

وَقَول، مجرور عطف على قَوْله: زِيَادَة الْإِيمَان، وَقَوله الثَّانِي أَيْضا عطف عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِير: بَاب فِي بَيَان زِيَادَة الْإِيمَان، وَبَيَان نقصانه، وَبَيَان قَول الله تَعَالَى: {وزدناهم هدى} (الْكَهْف: ١٣) وَبَيَان قَوْله تَعَالَى: {ويزداد الَّذين آمنُوا إِيمَانًا} (المدثر: ٣١) ثمَّ إِنَّه قَالَ: {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ} (الْمَائِدَة: ٣) بِلَفْظ الْمَاضِي وَلم يقل وَقَوله الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ على أسلوب أَخَوَيْهِ، لِأَن الْغَرَض مِنْهُ مَا هُوَ لَازمه، وَهُوَ بَيَان النُّقْصَان، وَالِاسْتِدْلَال بِهِ على أَن الْإِيمَان كَمَا تدخله الزِّيَادَة فَكَذَلِك يدْخلهُ النُّقْصَان لِأَن الشَّيْء إِذا قبل أحد الضدين لَا بُد وَأَن يقبل الضِّدّ الآخر، وَبَين ذَلِك بقوله: (فَإِذا ترك شَيْئا من الْكَمَال فَهُوَ نَاقص) ، بِخِلَاف مَا تقدم من الْآيَتَيْنِ، فَإِن المُرَاد مِنْهُمَا إِثْبَات الزِّيَادَة تَصْرِيحًا لَا استلزاما، لِأَن الزِّيَادَة مصرحة فيهمَا بِخِلَاف الْآيَة الثَّالِثَة. فَإِن الصَّرِيح فِيهَا الْكَمَال الَّذِي يُقَابله النُّقْصَان، وَهُوَ يفهم مِنْهُ التزاما لَا صَرِيحًا. وَلما كَانَ الْبَاب مترجما بِزِيَادَة الْإِيمَان ونقصانه احْتج على الزِّيَادَة بِصَرِيح الْآيَتَيْنِ، وعَلى النُّقْصَان بِالْآيَةِ الثَّالِثَة بطرِيق الاستلزام، وَقد ذكر الْآيَتَيْنِ المتقدمتين فِي بَاب أُمُور الْإِيمَان عِنْد قَوْله: كتاب الْإِيمَان، وَقد قُلْنَا أَنه لَو ذكر مَا يتَعَلَّق بِأُمُور الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان فِي بَاب وَاحِد، إِمَّا هُنَاكَ وَإِمَّا هَهُنَا، كَانَ أنسب، وَلكنه عقد فِي بَاب أُمُور الْإِيمَان هَذَا الْبَاب هَهُنَا لأجل الْمُنَاسبَة الَّتِي ذَكرنَاهَا آنِفا، فالآية الأولى فِي سُورَة الْكَهْف، وَالثَّانيَِة فِي سُورَة المدثر، وَالثَّالِثَة فِي سُورَة الْمَائِدَة، وَقد مر الْكَلَام فِي الْآيَتَيْنِ الْأَوليين هُنَاكَ. فَإِن قلت: دلَالَة الْآيَة الثَّانِيَة ظَاهِرَة على زِيَادَة الْإِيمَان فَكيف تدل الأولى وَلَيْسَ فِيهَا إلَاّ زِيَادَة الْهدى، وَهِي الدّلَالَة الموصولة إِلَى البغية؟ وَيُقَال هِيَ الدّلَالَة مُطلقًا؟ قلت: زِيَادَة الْهدى مستلزمة للْإيمَان، أَو المُرَاد من الْهدى هُوَ الْإِيمَان. وَقَالَ ابْن بطال: هَذِه الْآيَة يَعْنِي قَوْله تَعَالَى: {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ} (الْمَائِدَة: ٣) حجَّة فِي زِيَادَة الْإِيمَان ونقصانه، لِأَنَّهَا نزلت يَوْم كملت الْفَرَائِض وَالسّنَن وَاسْتقر الدّين، وَأَرَادَ الله عز وَجل قبض نبيه، فدلت هَذِه الْآيَة أَن كَمَال الدّين إِنَّمَا يحصل بِتمَام الشَّرِيعَة، فتصور كَمَاله يَقْتَضِي تصور نقصانه، وَلَيْسَ المُرَاد التَّوْحِيد، ولوجوده قبل نزُول الْآيَة.

<<  <  ج: ص:  >  >>