غير مُلَاحظَة الِامْتِنَاع. وَفِيه من الْفِقْه أَنه يجوز للْعَالم أَن يَأْخُذ فِي الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر بالشدة، ويتحمل الْأَذَى، ويحتسب رَجَاء ثَوَاب الله تَعَالَى، وَيُبَاح لَهُ أَن يسكت إِذا خَافَ الْأَذَى كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ: لَو حدثتكم بِكُل مَا سَمِعت من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقطع هَذَا البلعوم، وَعنهُ: لَو حدثتكم بِكُل مَا فِي جوفي لرميتموني بالبعر. وَقَالَ الْحسن: صدق، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ مَا يتَعَلَّق بالفتن مِمَّا لَا يتَعَلَّق بِذكرِهِ مصلحَة شَرْعِيَّة.
وَقَالَ ابنُ عَباسٍ: كُونُوا رَبَّانِيِّينَ حُلَماءَ فُقَهاءَ
هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ الْخَطِيب فِي كتاب (الْفَقِيه والمتفقه) بِسَنَد صَحِيح عَن أبي بكر الْحَرْبِيّ: ثَنَا أَبُو مُحَمَّد حَاجِب ابْن أَحْمد الطوسي، ثَنَا عبد الرَّحِيم بن حبيب، ثَنَا الفضيل ابْن عِيَاض عَن عَطاء عَن سعيد بن جُبَير عَنهُ. وَرَوَاهُ ابْن أبي عَاصِم فِي كتاب (الْعلم) عَن الْمقدمِي: ثَنَا أَبُو دَاوُد عَن معَاذ عَن سماك عَن عِكْرِمَة عَنهُ، وَقد فسر ابْن عَبَّاس: الرباني بِأَنَّهُ الْحَكِيم الْفَقِيه، وَوَافَقَهُ ابْن مَسْعُود فِيمَا رَوَاهُ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ فِي غَرِيبه عَنهُ بِإِسْنَاد صَحِيح، والرباني: مَنْسُوب إِلَى الرب، وَأَصله الربي، فزيدت فِيهِ الْألف وَالنُّون للتَّأْكِيد وَالْمُبَالغَة فِي النِّسْبَة. وَقَالَ أَبُو الْمعَانِي فِي كِتَابه (الْمُنْتَهى) : فِي اللُّغَة الرباني: المتأله الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى، وربيت الْقَوْم سستهم أَي: كنت فَوْقهم. وَقَالَ أَبُو نصر: هُوَ من الربوبية، وَعَن ابْن الْأَعرَابِي لَا يُقَال للْعَالم رباني حَتَّى يكون عَالما معلما. وَيُقَال: هُوَ العالي الدرجَة فِي الْعلم، وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: الرباني مَنْسُوب إِلَى الرب كَأَنَّهُ الَّذِي يقْصد مَا أمره الرب، وَفِي كتاب (الْفَقِيه) للخطيب عَن مُجَاهِد: الربانيون الْفُقَهَاء، وهم فَوق الْأَحْبَار. وَقَالَ نفطويه: قَالَ أَحْمد بن يحيى: إِنَّمَا قيل للْعُلَمَاء ربانيون لأَنهم يربون الْعلم، أَي: يقومُونَ بِهِ. وَفِي كتاب (الْفِقْه) عَنهُ إِذا كَانَ الرجل عَالما عَاملا معلما قيل لَهُ: هَذَا رباني. فَإِن خرم خصْلَة مِنْهَا لم يقل لَهُ رباني. وَعند الطَّبَرِيّ عَن ابْن زيد: الربيون الأتباع، والربانيون الْوُلَاة، والربيون الرّعية. وَعَن الْأَزْهَرِي: هم أَرْبَاب الْعلم الَّذين يعلمُونَ مَا يعلمُونَ. وَقَالَ أَبُو عبيد: سَمِعت رجلا عَالما بالكتب يَقُول: الربانيون الْعلمَاء بالحلال وَالْحرَام. وَفِي (الْجَامِع) للقزاز: الربي، وَالْجمع: ربيون: هم الْعباد الَّذين يصحبون الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام، ويصبرون مَعَهم، وهم الربانيون، نسبوا إِلَى عبَادَة الرب، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَقيل: هم الْعلمَاء الصَّبْر. وَقيل: لَيْسَ ربيون بلغَة الْعَرَب، إِنَّمَا هِيَ سريانية أَو عبرانية. وَحكي عَن بعض اللغويين أَن الْعَرَب لَا تعرف الرباني، وَقَالَ: إِنَّمَا فسره الْفُقَهَاء. قَالَ الْقَزاز: وَأَنا أرى أَن يكون عَرَبيا. قَوْله: (حكماء) جمع حَكِيم، وَالْحكمَة صِحَة القَوْل وَالْعقد وَالْفِعْل، وَيُقَال: الْحِكْمَة، الْفِقْه فِي الدّين. وَقيل: الْحِكْمَة معرفَة الْأَشْيَاء على مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَالْفُقَهَاء جمع فَقِيه، وَالْفِقْه: الْفَهم لُغَة، وَفِي الِاصْطِلَاح: الْعلم بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة العملية من أدلتها التفصيلية، وَفِي بعض النّسخ: (حلماء) ، جمع حَلِيم بِاللَّامِ، والحلم هُوَ الطُّمَأْنِينَة عِنْد الْغَضَب، وَفِي بَعْضهَا عُلَمَاء، وَهُوَ من بَاب ذكر الْخَاص بعد الْعَام، وَالظَّاهِر أَن حكماء وفقهاء تَفْسِير للربانيين.
ويُقالُ: الرَّبَّانِيُّ الَّذِي يُرَبِّي الناسَ بِصِغارِ العِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ
هَذَا حِكَايَة البُخَارِيّ عَن قَول بَعضهم، وَهُوَ من التربية أَي: الَّذِي يُربي النَّاس بجزئيات الْعلم قبل كلياته، أَو بفروعه قبل أُصُوله، أَو بمقدماته قبل مقاصده. فَإِن قلت: هَذَا كُله هُوَ التَّرْجَمَة، فَأَيْنَ مَا هَذِه تَرْجَمته؟ قلت: إِمَّا أَنه أَرَادَ أَن يلْحق الْأَحَادِيث الْمُنَاسبَة إِلَيْهَا، فَلم يتَّفق لَهُ. وَإِمَّا أَنه للإشعار بِأَنَّهُ لم يثبت عِنْده بِشَرْطِهِ مَا يُنَاسِبهَا، وَإِمَّا أَنه اكْتفى بِمَا ذكره تَعْلِيقا، لِأَن الْمَقْصُود من الْبَاب بَيَان فَضِيلَة الْعلم، وَيعلم ذَلِك من الْمَذْكُور آيَة وحديثاً وإجماعاً سكوتياً من الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم، بِحَيْثُ انْتهى إِلَى حد علم الضَّرُورَة فَلم يحْتَج إِلَى الزِّيَادَة، أَو لسَبَب آخر، وَالله أعلم.
١١ - (بَاب مَا كانَ النبيُّ يَتَخَوَّلُهُمْ بالموْعِظَةِ والعِلْمِ كَي لَا يَنْفِرُوا)
الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع: الأول: إِن التَّقْدِير: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا كَانَ النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، يَتَخَوَّلُ الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم، بِالْمَوْعِظَةِ، وارتفاعه على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف وَهُوَ مُضَاف إِلَى مَا بعده من الْجُمْلَة، وَكلمَة: مَا، مَصْدَرِيَّة تَقْدِيره: بَاب كَون النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام يتخولهم. الثَّانِي: وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول هُوَ الْعلم، وَالْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب هُوَ التخول بِالْعلمِ. الثَّالِث: قَوْله: يتخولهم، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره اللَّام، مَعْنَاهُ: يتعهدهم، وَهُوَ من التخول، وَهُوَ التعهد
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute