للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ذكره مُعَلّقا، وَقد علم أَن مَا كَانَ من هَذَا فَهُوَ عِنْده فِي حكم الْمُتَّصِل لإيراده لَهُ بِصِيغَة الْجَزْم، مَعَ أَنه ذكره مَوْصُولا بعد هَذَا ببابين، كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى، من حَدِيث مُعَاوِيَة، رَضِي الله عَنهُ. قَوْله: (يفقهه) أَي: يفهمهُ، إِذْ الْفِقْه فِي اللُّغَة الْفَهم. قَالَ تَعَالَى {يفقهوا قولي} (طه: ٢٨) أَي: يفهموا قولي، من فقه يفقه، من بَاب: علم يعلم، ثمَّ خص بِهِ علم الشَّرِيعَة، والعالم بِهِ يُسمى فَقِيها. وَجَاء: فقه، بِالضَّمِّ، فقاهة، وَهَكَذَا رِوَايَة الْأَكْثَرين: يفقه، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: بِالْهَاءِ الْمُشَدّدَة الْمَكْسُورَة بعْدهَا مِيم، وَأخرجه ابْن أبي عَاصِم بِهَذَا اللَّفْظ فِي كتاب الْعلم من طَرِيق ابْن عمر عَن عمر، رَضِي الله عَنهُ، مَرْفُوعا بِإِسْنَاد حسن.

{وَإِنَّمَا العِلم بالتَّعَلُّمِ}

قَالَ الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَن يكون هَذَا من كَلَام البُخَارِيّ. قلت: هَذَا حَدِيث مَرْفُوع أوردهُ ابْن أبي عَاصِم وَالطَّبَرَانِيّ من حَدِيث مُعَاوِيَة، رَضِي الله عَنهُ، بِلَفْظ: (يَا أَيهَا النَّاس تعلمُوا إِنَّمَا الْعلم بالتعلم، وَالْفِقْه بالتفقه وَمن يرد الله بِهِ خيرا يفقهه فِي الدّين) ، إِسْنَاده حسن، والمبهم الَّذِي فِيهِ اعتضد بمجيئه من وَجه آخر، وَرَوَاهُ الْخَطِيب فِي كتاب (الْفَقِيه والمتفقه) من حَدِيث مَكْحُول عَن مُعَاوِيَة وَلم يسمع مِنْهُ. قَالَ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (يَا أَيهَا النَّاس إِنَّمَا الْعلم بالتعلم وَالْفِقْه بالتفقه) . وروى الْبَزَّار نَحوه من حَدِيث ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَوْقُوفا: (بالتعلم) ، بِفَتْح الْعين وَتَشْديد اللَّام، وَفِي بعض النّسخ بالتعليم، أَي لَيْسَ الْعلم المعتد إلَاّ الْمَأْخُوذ عَن الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، على سَبِيل التَّعَلُّم والتعليم، فيفهم مِنْهُ أَن الْعلم لَا يُطلق إلَاّ على علم الشَّرِيعَة، وَلِهَذَا لَو أوصى رجل للْعُلَمَاء لَا ينْصَرف إلَاّ على أَصْحَاب الحَدِيث وَالتَّفْسِير وَالْفِقْه.

وَقَالَ أبُو ذَرٍّ: لَوْ وَضَعْتُمُ الصمَّصْامَةَ على هَذِه، وأشارَ إِلَى قَفَاهُ، ثمَّ ظَنَنْتُ أنِّي أُنْفِذُ كَلِمَةً سَمِعْتُها مِنَ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَبْلَ أَن تُجِيزُوا عَلَيَّ لأَنْفَذْتُها.

هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ الدَّارمِيّ مَوْصُولا فِي (مُسْنده) من طَرِيق الْأَوْزَاعِيّ: حَدثنِي مرْثَد بن أبي مرْثَد عَن أَبِيه قَالَ: (أتيت أَبَا ذَر وَهُوَ جَالس عِنْد الْجَمْرَة الْوُسْطَى، وَقد اجْتمع النَّاس عَلَيْهِ يستفتونه، فَأَتَاهُ رجل فَوقف عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: ألَمْ تُنْهَ عَن الْفتيا؟ فَرفع رَأسه إِلَيْهِ، فَقَالَ: أرقيب أَنْت عَليّ؟ لَو وضعتم) فَذكر مثله. وَرَوَاهُ أَحْمد بن منيع عَن سُلَيْمَان بن عبد الرَّحْمَن الدِّمَشْقِي، عَن الْوَلِيد بن مُسلم عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن مرْثَد بن أبي مرْثَد عَن أَبِيه قَالَ: (جَلَست إِلَى أبي ذَر الْغِفَارِيّ، رَضِي الله عَنهُ، إِذْ وقف عَلَيْهِ رجل فَقَالَ: ألم ينهك أَمِير الْمُؤمنِينَ عَن الْفتيا؟ فَقَالَ أَبُو ذَر: وَالله لَو وضعتم الصمصامة على هَذِه، وَأَشَارَ إِلَى حلقه، على أَن أترك كلمة سَمعتهَا من رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لأنفذتها قبل أَن يكون ذَلِك) . قلت: كَانَ سَبَب ذَلِك أَن أَبَا ذَر كَانَ بِالشَّام، وَاخْتلف مَعَ مُعَاوِيَة فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى {وَالَّذين يكنزون الذَّهَب وَالْفِضَّة} (التَّوْبَة: ٢٤) فَقَالَ مُعَاوِيَة: نزلت فِي أهل الْكتاب خَاصَّة، وَقَالَ أَبُو ذَر: نزلت فِينَا وَفِيهِمْ، فَكتب مُعَاوِيَة إِلَى عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، فَأرْسل إِلَى أبي ذَر، فحصلت مُنَازعَة أدَّت إِلَى انْتِقَال أبي ذَر عَن الْمَدِينَة، فسكن الربذَة، بِفَتْح الرَّاء وَالْبَاء الْمُوَحدَة والذال الْمُعْجَمَة، إِلَى أَن مَاتَ، وَقد ذَكرْنَاهُ، واسْمه جند بن جُنَادَة. قَوْله: (الصمصامة) قَالَ الْجَوْهَرِي: الصمصام والصمصامة: السَّيْف الصارم الَّذِي لَا ينثني، وَأَشَارَ بقوله: هَذِه، إِلَى: الْقَفَا، والقفا: يذكر وَيُؤَنث، وَهُوَ مَقْصُور مُؤخر الْعُنُق. قَوْله: (أنفذ) ، بِضَم الْهمزَة والذال الْمُعْجَمَة، أَي ظَنَنْت أَنِّي أقدر على إِنْفَاذ كلمة أَي: تبليغها. وَقَوله: (قبل أَن تجيزوا) ، بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسر الْجِيم وَبعد الْيَاء زَاي مُعْجمَة، أَي قبل أَن يقطعوا عَليّ، أَرَادَ بِهِ: قبل أَن يقطعوا رَأْسِي. وَقَالَ الصغاني: والتركيب يدل على قطع الشَّيْء. قلت: وَمِنْه قَوْله:

(حَتَّى أجَاز الْوَادي)

أَي: قطعه.

(فَأَكُون أول من يُجِيز)

أَي: أول من يقطع مَسَافَة الصِّرَاط. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وتجيزوا، أَي الصمصامة عَليّ، أَي: على قفاي. قلت: هُوَ من أجَاز الشَّيْء إِذا انفذه، و: الصمصامة، مَفْعُوله، وَكلمَة: على لَيست صلَة لأجل التَّعَدِّي. وَحَاصِل الْمَعْنى: أَنه يبلغ مَا يحملهُ فِي كل حَال، وَلَا ينثني عَن ذَلِك، وَلَو عرض عَلَيْهِ الْقَتْل أَو وضع على قَفاهُ السَّيْف، وَفِيه دَلِيل على أَن أَبَا ذَر، رَضِي الله عَنهُ، كَانَ لَا يرى بِطَاعَة الإِمَام إِذا نَهَاهُ عَن الْفتيا، لِأَنَّهُ كَانَ يرى أَن ذَلِك وَاجِب عَلَيْهِ لأمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالتبليغ عَنهُ، وَلَعَلَّه أَيْضا سمع الْوَعيد فِي حق من كتم علما يُعلمهُ. فَإِن قلت: لَو لِامْتِنَاع الثَّانِي لِامْتِنَاع الأول على الْمَشْهُور، فَمَعْنَاه: انْتَفَى الإنفاذ لانْتِفَاء الْوَضع، وَلَيْسَ الْمَعْنى عَلَيْهِ. قلت: هُوَ مثل: (لَو لم يخف الله لم يَعْصِهِ) . يَعْنِي: يكون الحكم ثَابتا على تَقْدِير النقيض بِالطَّرِيقِ الأولى، فَالْمُرَاد أَن الإنفاذ حَاصِل على تَقْدِير الْوَضع، وعَلى تَقْدِير عدم الْوَضع حُصُوله أولى، أَو إِن: لَو هَهُنَا لمُجَرّد الشَّرْط يَعْنِي حكمهَا حكم: إِن، من

<<  <  ج: ص:  >  >>