يَتَأَتَّى هَذَا الْمَعْنى فِي قَوْله: (لَا حسد إِلَّا فِي اثْنَيْنِ) ، فَكيف يكون من قبيل الْآيَة الْمَذْكُورَة، وَفِي الْآيَة جَمِيع الْمَوْت منفي. بِخِلَاف الْحَسَد، فَإِن جَمِيعه لَيْسَ بمنفي، فَإِن الْحَسَد فِي الْخيرَات ممدوح، وَلِهَذَا نكر الْحَاسِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمن شَرّ حَاسِد إِذا حسد} (الفلق: ٥) لِأَن كل حَاسِد لَا يضر. قَالَ أَبُو تَمام:
(وَمَا حَاسِد فِي المكرمات بحاسد)
وَكَذَلِكَ نكر الْغَاسِق، لِأَن كل غَاسِق لَا يكون فِيهِ الشَّرّ، وَإِنَّمَا يكون فِي بعض دون بعض، بِخِلَاف النفاثات، فَإِنَّهُ عرف، لِأَن كل نفاثة شريرة. قَوْله: (مَالا) ، إِنَّمَا نكره وَعرف الْحِكْمَة، لِأَن المُرَاد من الْحِكْمَة معرفَة الْأَشْيَاء الَّتِي جَاءَ الشَّرْع بهَا، يَعْنِي الشَّرِيعَة، فَأَرَادَ التَّعْرِيف بلام الْعَهْد، أَو المُرَاد مِنْهُ الْقُرْآن كَمَا ذكرنَا، فَاللَّام للْعهد أَيْضا بِخِلَاف المَال، فَلهَذَا دخل صَاحبه بِأَيّ قدر من المَال أهلكه فِي الْحق تَحت هَذَا الحكم. قَوْله: (فَسلط على هَلَكته) ، فِي هَذِه الْعبارَة مبالغتان: احداهما: التسليط فَإِنَّهُ يدل على الْغَلَبَة وقهر النَّفس المجبولة على الشُّح الْبَالِغ، وَالْأُخْرَى: لفظ: على هَلَكته، فَإِنَّهُ يدل على أَنه لَا يبقي من المَال شَيْئا، وَلما أوهم اللفظان التبذير، وَهُوَ صرف المَال فِيمَا لَا يَنْبَغِي، ذكر قَوْله: (فِي الْحق) ، دفعا لذَلِك الْوَهم. وَكَذَا الْقَرِينَة الْأُخْرَى اشْتَمَلت على مبالغتين إِحْدَاهمَا: الْحِكْمَة، فَإِنَّهَا تدل على علم دَقِيق مُحكم. وَالْأُخْرَى: الْقَضَاء بَين النَّاس وتعليمهم، فَإِنَّهَا من خلَافَة النُّبُوَّة، ثمَّ إِن لفظ الْحِكْمَة إِشَارَة إِلَى الْكَمَال العلمي ويفضي إِلَى الْكَمَال العملي، وبكليهما إِلَى التَّكْمِيل. والفضيلة إِمَّا داخلية، وَإِمَّا خارجية. وأصل الْفَضَائِل الداخلية الْعلم، وأصل الْفَضَائِل الخارجية المَال. ثمَّ الْفَضَائِل، إمَّا تَامَّة، وإمَّا فَوق التَّامَّة، وَالْأُخْرَى أفضل من الأولى لِأَنَّهَا كَامِلَة متعدية، وَهَذِه قَاصِرَة غير متعدية. وَقَالَ الْخطابِيّ: وَمعنى الحَدِيث التَّرْغِيب فِي طلب الْعلم وتعلمه وَالتَّصَدُّق بِالْمَالِ، وَقيل: إِنَّه تَخْصِيص لإباحة نوع من الْحَسَد، كَمَا رخص فِي نوع من الْكَذِب. قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن الْكَذِب لَا يحل إلَاّ فِي ثَلَاث)
الحَدِيث. والحسد على ثَلَاثَة أضْرب: محرم ومباح ومحمود، فالمحرم: تمني زَوَال النِّعْمَة الْمَحْسُود عَلَيْهَا عَن صَاحبهَا وانتقالها إِلَى الْحَاسِد. وَأما القسمان الْآخرَانِ فغبطة، وَهُوَ أَن يتَمَنَّى مَا يرَاهُ من خير بأحدٍ أَن يكون لَهُ مثله، فَإِن كَانَت فِي أُمُور الدُّنْيَا فمباح، وَإِن كَانَت من الطَّاعَات فمحمود. قَالَ النَّوَوِيّ: الأول حرَام بِالْإِجْمَاع. وَقَالَ بعض الْفُضَلَاء: إِذا أنعم الله تَعَالَى على أَخِيك نعْمَة، فكرهتها واحببت زَوَالهَا، فَهُوَ حرَام بِكُل حَال، إلاّ نعْمَة أَصَابَهَا كَافِر أَو فَاجر، أَو من يَسْتَعِين بهَا على فتْنَة أَو فَسَاد.
وَقَالَ ابْن بطال: وَفِيه من الْفِقْه أَن الْغَنِيّ إِذا قَامَ بِشُرُوط المَال، وَفعل مَا يُرْضِي ربه تبَارك وَتَعَالَى فَهُوَ أفضل من الْفَقِير الَّذِي لَا يقدر على مثل هَذَا، وَالله أعلم.
١٦ - (بَاب مَا ذُكِرَ فِي ذَهابِ مُوسَى صَلَّى الله عَلَيْهِ فِي البَحْرِ إِلى الخضِرِ)
الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع.
الأول: أَن التَّقْدِير: هَذَا بَاب فِي مَا ذكر ... إِلَى آخِره، وارتفاع: بَاب، على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، وَهُوَ مُضَاف إِلَى مَا بعده: والذهاب، الْفَتْح مصدر ذهب. قَالَ الصغاني: وَذهب مر ذَاهِبًا ومذهباً وذهوباً. وَذهب مذهبا حسنا.
الثَّانِي: وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ أَن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول هُوَ الِاغْتِبَاط فِي الْعلم، وَهَذَا الْبَاب فِي التَّرْغِيب فِي احْتِمَال الْمَشَقَّة فِي طلب الْعلم، وَمَا يغتبط فِيهِ يتَحَمَّل فِيهِ الْمَشَقَّة، وَوجه آخر وَهُوَ: أَن المغتبط شَأْنه الِاغْتِبَاط، وَإِن بلغ الْمحل الْأَعْلَى من كل الْفَضَائِل. وَهَذَا الْبَاب فِيهِ أَن مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لم يمنعهُ بُلُوغه من السِّيَادَة الْمحل الْأَعْلَى من طلب الْفَضِيلَة والكمال حَتَّى قاسى تَعب الْبر وركوب الْبَحْر.
الثَّالِث: أَن هَذَا التَّرْكِيب يُفِيد أَن مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ركب الْبَحْر لما توجه فِي طلب الْخضر، مَعَ أَن الَّذِي ثَبت عِنْد البُخَارِيّ وَغَيره أَنه خرج إِلَى الْبر، وَإِنَّمَا ركب الْبَحْر فِي السَّفِينَة هُوَ وَالْخضر بعد أَن التقيا، وَيُمكن أَن يُوَجه هَذَا بتوجيهين: أَحدهمَا: أَن الْمَقْصُود من الذّهاب إِنَّمَا حصل بِتمَام الْقِصَّة، وَمن تَمامهَا أَنه ركب مَعَ الْخضر الْبَحْر. فَأطلق على جَمِيعهَا ذَهَابًا مجَازًا من قبيل إِطْلَاق أسم الْكل على الْبَعْض، أَو من قبيل تَسْمِيَة السَّبَب باسم مَا تسبب عَنهُ. الآخر: أَن الظّرْف، وَهُوَ قَوْله: فِي الْبَحْر، فِي قَوْله: (وَكَانَ يتبع أثر الْحُوت فِي الْبَحْر) ، يحْتَمل أَن يكون لمُوسَى، وَيحْتَمل أَن يكون للحوت، وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَلَعَلَّهُ قوى عِنْده أحد الِاحْتِمَالَيْنِ بِمَا روى عبد بن حميد عَن أبي الغالية: أَن مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، التقى بالخضر فِي جَزِيرَة من جزائر الْبَحْر. انْتهى. والتوصل إِلَى جَزِيرَة فِي الْبَحْر لَا يَقع إلَاّ بسلوك الْبَحْر، وَبِمَا رَوَاهُ أَيْضا من طَرِيق الرّبيع بن أنس قَالَ: انجاب المَاء عَن مَسْلَك الْحُوت، فَصَارَ طَاقَة مَفْتُوحَة، فَدَخلَهَا مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، على أثر الْحُوت حَتَّى انْتهى إِلَى الْخضر، فهذان