فَإِن هم العَبْد بِالْحَسَنَة فعملها قَوْله: (عشر حَسَنَات) قَالَ عز وَجل: {من جَاءَ بِالْحَسَنَة فَلهُ عشر أَمْثَالهَا} (الْأَنْعَام: ٠٦١) قَوْله: (إِلَى سَبْعمِائة ضعف) أَي: مثل، والضعف يُطلق على الْمثل وعَلى المثلين، قَالَ الله تَعَالَى: {مثل الَّذين يُنْفقُونَ أَمْوَالهم} (الْبَقَرَة: ١٦٢ و ٥٦٢) الْآيَة قَوْله: (إِلَى أَضْعَاف كَثِيرَة) قَالَ الله تَعَالَى: {وَالله يُضَاعف لمن يَشَاء} (الْبَقَرَة: ١٦٢) . قيل: لما كَانَ الْهم بِالْحَسَنَة مُعْتَبرا بِاعْتِبَار أَنه فعل الْقلب لزم أَن يكون بِالسَّيِّئَةِ أَيْضا كَذَلِك. وَأجِيب: بِأَن هَذَا من فضل الله على عباده حَيْثُ عَفا عَنْهُم، وَلَوْلَا هَذَا الْفضل الْعَظِيم لم يدْخل أحد الْجنَّة لِأَن السَّيِّئَات من الْعباد أَكثر من الْحَسَنَات، فلطف الله عز وَجل بعباده بِأَن ضاعف لَهُم الْحَسَنَات دون السَّيِّئَات. قيل: إِذا هم العَبْد بِالسَّيِّئَةِ وَلم يعْمل بهَا فغايته أَن لَا تكْتب لَهُ سَيِّئَة فَمن أَيْن أَن تكْتب لَهُ حَسَنَة؟ وَأجِيب: بِأَن الْكَفّ عَن الشَّرّ حَسَنَة. قيل: اتّفق الْعلمَاء على أَن الشَّخْص إِذا عزم على ترك صَلَاة بعد عشْرين سنة عصى فِي الْحَال؟ وَأجِيب: بِأَن الْعَزْم وَهُوَ توطين النَّفس على فعله غير الْهم الَّذِي هُوَ تحديث النَّفس من غير اسْتِقْرَار، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: إِذا حدث العَبْد نَفسه بالمعصية لم يُؤَاخذ، فَإِذا عزم فقد خرج عَن تحديث النَّفس فَيصير من أَعمال الْقلب، فَإِن عقد النِّيَّة على الْفِعْل فحينئذٍ يَأْثَم، وَبَيَان الْفرق بَين الْهم والعزم أَنه لَو حدث نَفسه فِي الصَّلَاة وَهُوَ فِيهَا بقطعها لم تَنْقَطِع، فَإِذا عزم حكمنَا بقطعها.
ثمَّ إعلم أَن حَدِيث ابْن عَبَّاس هَذَا مَعْنَاهُ الْخُصُوص لمن همَّ بسيئة فَتَركهَا لوجه الله تَعَالَى، وَأما من تَركهَا مكْرها على تَركهَا بِأَن يُحَال بَينه وَبَينهَا فَلَا تكْتب لَهُ حَسَنَة، فَلَا يدْخل فِي نَص الحَدِيث. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: وَفِي هَذَا الحَدِيث تَصْحِيح مقَالَة من يَقُول: إِن الْحفظَة تكْتب مَا يهم بِهِ العَبْد من حَسَنَة أَو سَيِّئَة، وَتعلم اعْتِقَاده كَذَلِك، ورد مقَالَة من زعم أَن الْحفظَة لَا تكْتب إلَاّ مَا ظهر من عمل العَبْد وَتسمع. فَإِن قيل: الْملك لَا يعلم الْغَيْب فَكيف يعلم بهم العَبْد؟ قيل لَهُ: قد جَاءَ فِي الحَدِيث أَنه اذا هم بحسنة فاحت مِنْهُ رَائِحَة طيبَة، وَإِذا هم بسيئة فاحت مِنْهُ رَائِحَة كريهة.
قلت: هَذَا الحَدِيث أخرجه الطَّبَرِيّ عَن أبي معشر الْمدنِي، وَسَيَأْتِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي التَّوْحِيد بِلَفْظ: (إِذا اراد عَبدِي أَن يعْمل سَيِّئَة فَلَا تكتبوها عَلَيْهِ حَتَّى يعملها) .
وَفِيه: دَلِيل على أَن الْملك يطلع على مَا فِي الْآدَمِيّ إِمَّا باطلاع الله إِيَّاه، وَإِمَّا بِأَن يخلق الله لَهُ علما يدْرك بِهِ ذَلِك.
٢٣ - (بابُ مَا يُتَّقى مِنْ مُحَقَّراتِ الذُّنُوبِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يتقى أَي: مَا يجْتَنب من محقرات الذُّنُوب، وَجَاء هَذَا اللَّفْظ فِي حَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه عَن عَائِشَة: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهَا: (يَا عَائِشَة! إياك ومحقرات الذُّنُوب فَإِن لَهَا من الله طَالبا) . وَصَححهُ ابْن حبَان، والمحقرات جمع محقرة وَهِي الذُّنُوب الَّتِي يحتقرها فاعلها.
٢٩٤٦ - حدّثنا أبُو الوَلِيد حدّثنا مَهْدِيُّ عنْ غَيْلانَ عنْ أنَسٍ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: إنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أعْمالاً هِيَ أدَقُّ فِي أعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ إنْ كُنَّا نَعدُّ عَلى عَهْدِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المُوبِقاتِ.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله: يَعْنِي بِذالِكَ المُهْلِكاتِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من معنى الحَدِيث. وَأَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ، ومهدي هُوَ ابْن مَيْمُون الْأَزْدِيّ، وغيلان بِفَتْح الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف ابْن جرير، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ غيلَان بن جَامع، وَهُوَ غلط صَرِيح لِأَن غيلَان بن جرير من أهل الْبَصْرَة، وغيلان بن جَامع كُوفِي قَاضِي الْكُوفَة.
وَرِجَال السَّنَد كلهم بصريون. والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (لتعملون) اللَّام فِيهِ للتَّأْكِيد. قَوْله: (هِيَ أدق) أفعل التَّفْضِيل من الدقة بِكَسْر الدَّال، وَأَرَادَ بِهِ أَنهم كَانُوا يحقرونها ويهونونها. قَوْله: (إِن كُنَّا تعدها) إِن مُخَفّفَة من الثَّقِيلَة، وَجَاز اسْتِعْمَالهَا بِدُونِ اللَّام الفارقة بَينهَا وَبَين النافية عِنْد الْأَمْن من الالتباس، وتعدها، بِدُونِ اللَّام فِي رِوَايَة أبي ذَر عَن السَّرخسِيّ وَالْمُسْتَمْلِي، وَعند الْأَكْثَرين: لنعدها، بلام التَّأْكِيد وَأَيْضًا بالضمير وَعِنْدَهُمَا بِحَذْف الضَّمِير أَيْضا، وَلَفْظهمَا: إِن كُنَّا نعد. قَوْله: (على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: فِي زَمَنه وأيامه. قَوْله: (الموبقات)