فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: (ليريه النَّاس) ، وَاللَّام فِيهِ للتَّعْلِيل فِي الْوَجْهَيْنِ. و: النَّاس، مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول ثانٍ لِأَن: ليريه، بِضَم الْيَاء من الإراءة وَهِي تستدعي مفعولين كَمَا عرف فِي مَوْضِعه.
وقصة هَذَا الحَدِيث أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج إِلَى مَكَّة عَام الْفَتْح فِي رَمَضَان، فصَام النَّاس، فَقيل لَهُ: إِن النَّاس قد شقّ عَلَيْهِم الصَّوْم، وَإِنَّمَا ينتظرون إِلَى فعلك. فَدَعَا بقدح من مَاء، فرفعه حَتَّى ينظر النَّاس إِلَيْهِ فيقتدوا بِهِ فِي الْإِفْطَار، لِأَن الصّيام أضرّ بهم، فَأَرَادَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم التَّيْسِير عَلَيْهِم، وَكَانَ لَا يُؤمن عَلَيْهِم الضعْف والوهن فِي حربهم حِين لِقَاء عدوهم.
٩٣ - (بابٌ {وعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم قَوْله تَعَالَى: {وعَلى الَّذين يطيقُونَهُ} (الْبَقَرَة: ٤٨١) . أَي: وعَلى الَّذين يُطِيقُونَ الصَّوْم الَّذين لَا عذر بهم إِن أفطروا: {فديَة طَعَام مِسْكين} (الْبَقَرَة: ٤٨١) . نصف صَاع من بر، أَو صَاع من غَيره عِنْد أهل الْعرَاق، وَعند أهل الْحجاز مد، وَكَانَ فِي بَدْء الْإِسْلَام فرض عَلَيْهِم الصَّوْم، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِم فَرخص لَهُم فِي الْإِفْطَار والفدية. وَقَالَ معَاذ: كَانَ فِي ابْتِدَاء الْأَمر: من شَاءَ صَامَ وَمن شَاءَ أفطر وَأطْعم عَن كل يَوْم مِسْكينا حَتَّى نزلت الْآيَة الَّتِي بعْدهَا، فنسختها وارتفاع فديَة، على الِابْتِدَاء وَخَبره مقدما هُوَ قَوْله {وعَلى الَّذين} وَقِرَاءَة عَامَّة فديَة بِالتَّنْوِينِ وَقَوله: {طَعَام مِسْكين} (الْبَقَرَة: ٥٨١) . بَيَان: لفدية، أَو: بدل مِنْهَا، وَفِي قِرَاءَة نَافِع: {طَعَام مَسَاكِين} بِالْجمعِ، وَقَالَت طَائِفَة: بل هَذَا خَاص بالشيخ والعجوز الْكَبِير الَّذين لم يطيقا الصَّوْم رخص لَهما الْإِفْطَار ويفديان، والفدية الْجَزَاء، وَالْبدل من قَوْلك: فديت الشَّيْء بالشَّيْء أَي: هَذَا بِهَذَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس: يطوقونه، تفعيل من الطوق، إِمَّا بِمَعْنى الطَّاقَة أَو القلادة، أَي: يكلفونه أَو يقلدونه، وَعَن ابْن عَبَّاس: يتطوقونه بِمَعْنى: يتكلفونه، أَو يتقلدونه ويطوقونه بإدغام التَّاء فِي الطَّاء، ويطيقونه ويطيقونه بِمَعْنى يتطقونه، وأصلهما: يطيقُونَهُ ويتطيوقونه، على أَنَّهُمَا من فعيل، وتفعيل من الطوق، فأدغمت الْيَاء فِي الْوَاو بعد قَلبهَا يَاء، وهم الشُّيُوخ والعجائز، فعلى هَذَا لَا نسخ بل هُوَ ثَابت، وَالله أعلم.
قَالَ ابنُ عُمَرَ وسَلَمَة بنُ الأكْوَعِ نَسخَتْها {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدَى والفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ومنْ كانَ مَرِيضا أوْ علَى سَفرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ الله بِكُمْ الْيُسْرَ ولَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ ولِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ولِتُكَبِّرُوا الله عَلى مَا هَدَاكُمْ ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الْبَقَرَة: ٥٨١) .
أَي: قَالَ عبد الله بن عمر بن الْخطاب وَسَلَمَة بن الْأَكْوَع، وَهُوَ سَلمَة بن عَمْرو بن الْأَكْوَع أَبُو إِيَاس الْأَسْلَمِيّ الْمدنِي. قَوْله: (نسختها) أَي: نسخت آيَة: {وعَلى الَّذين يطيقُونَهُ} (الْبَقَرَة: ٤٨١) . آيَة {شهر رَمَضَان} (الْبَقَرَة: ٥٨١) . أما حَدِيث ابْن عمر فوصله فِي آخر الْبَاب عَن عَيَّاش بتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف والشين الْمُعْجَمَة، وَقد أخرجه عَنهُ أَيْضا فِي التَّفْسِير. وَأما حَدِيث أم سَلمَة فوصله فِي تَفْسِير الْبَقَرَة بِلَفْظ: (لما نزلت {وعَلى الَّذين يطيقُونَهُ فديَة طَعَام مِسْكين} (الْبَقَرَة: ٤٨١) . كَانَ من أَرَادَ أَن يفْطر أفطر وافتدى، حَتَّى نزلت الْآيَة الَّتِي بعْدهَا، فنسختها) .
وَقد اخْتلف السّلف فِي قَوْله عز وَجل: {وعَلى الَّذين يطيقُونَهُ} (الْبَقَرَة: ٤٨١) . فَقَالَ قوم: إِنَّهَا مَنْسُوخَة، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيث سَلمَة وَابْن عمر ومعاذ، وَهُوَ قَول عَلْقَمَة وَالنَّخَعِيّ وَالْحسن وَالشعْبِيّ وَابْن شهَاب، وعَلى هَذَا تكون قراءتهم {وعَلى الَّذين يطيقُونَهُ} (الْبَقَرَة: ٤٨١) . بِضَم الْيَاء وَكسر الطَّاء وَسُكُون الْيَاء الثَّانِيَة، وَعند ابْن عَبَّاس: هِيَ محكمَة، وَعَلِيهِ قِرَاءَة: {يطوقونه} بِالْوَاو الْمُشَدّدَة، وروى عَنهُ: {يطيقُونَهُ} بِضَم الطَّاء وَالْيَاء المشددتين.
ثمَّ إِن الشَّيْخ الْكَبِير والعجوز إِذا كَانَ الصَّوْم يجهدهما ويشق عَلَيْهِمَا مشقة شَدِيدَة، فَلَهُمَا أَن يفطرا ويطعما لكل يَوْم مِسْكينا، وَهَذَا قَول عَليّ وَابْن عَبَّاس وَأبي هُرَيْرَة وَأنس وَسَعِيد ابْن جُبَير وطاووس وَأبي حنيفَة وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد بن حَنْبَل، وَقَالَ مَالك: لَا يجب عَلَيْهِ شَيْء، لِأَنَّهُ لَو ترك الصَّوْم لعَجزه مَا تجب فديَة، كَمَا تَركه لمَرض اتَّصل بِهِ الْمَوْت، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ربيعَة وَأبي ثَوْر وَدَاوُد، وَاخْتَارَهُ الطَّحَاوِيّ وَابْن الْمُنْذر، وَللشَّافِعِيّ قَولَانِ كالمذهبين: أَحدهمَا: لَا تجب الْفِدْيَة عَلَيْهِمَا لعدم وجوب الصَّوْم عَلَيْهِمَا. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيد: تجب الْفِدْيَة
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute