الحَدِيث. قَوْله: (يسْعَى بهَا) يَعْنِي: أَن ذمَّة الْمُسلمين سَوَاء صدرت من وَاحِد أَو أَكثر شرِيف أَو وضيع، فَإِذا آمن أحد من الْمُسلمين كَافِرًا وَأَعْطَاهُ ذمَّته لم يكن لأحد نقضه، فيستوي فِي ذَلِك الرجل وَالْمَرْأَة، وَالْحر وَالْعَبْد، لِأَن الْمُسلمين كَنَفس وَاحِدَة. وَالله أعلم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: رد على الشِّيعَة فِيمَا يَدعُونَهُ من أَن عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عِنْده وَصِيَّة من سيدنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَهُ بِأُمُور كَثِيرَة من أسرار الْعلم وقواعد الدّين. وَفِيه: جَوَاز كِتَابَة الْعلم. وَفِيه: الْمُحدث والمروي لَهُ فِي الْإِثْم سَوَاء. وَفِيه: حجَّة لمن أجَاز أَمَان الْمَرْأَة وَالْعَبْد، وَهُوَ مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ، وَعند أبي حنيفَة: لَا يجوز إلَاّ إِذا أذن الْمولى لعَبْدِهِ بِالْقِتَالِ. وَفِيه: أَن نقض الْعَهْد حرَام. وَفِيه: ذمّ انتماء الْإِنْسَان إِلَى غير أَبِيه، أَو انتماء الْعَتِيق إِلَى غير مُعْتقه لما فِيهِ من كفر النِّعْمَة وتضييع الْحُقُوق وَالْوَلَاء وَالْعقل، وَغير ذَلِك، مَعَ مَا فِيهِ من قطيعة الرَّحِم والعقوق.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله عَدْلٌ فِدَاءٌ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن تَفْسِير الْعدْل عِنْده بِمَعْنى الْفِدَاء، وَهَذَا مُوَافق لتفسير الْأَصْمَعِي، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَهَذَا: أَعنِي قَوْله: قَالَ عبد الله ... إِلَى آخِره، وَقع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي.
٢ - (بابُ فَضْلِ المَدِينَةِ وأنَّها تَنْفِي النَّاسَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل الْمَدِينَة، وَفِي بَيَان أَنَّهَا تَنْفِي النَّاس، قَالُوا: يَعْنِي شرارهم؟ قلت: جعلُوا لفظ تَنْفِي من النَّفْي، فَلذَلِك قدرُوا هَذَا التَّقْدِير، وَالْأَحْسَن عِنْدِي أَن تكون هَذِه اللَّفْظَة من التنقية بِالْقَافِ، وَالْمعْنَى: أَن الْمَدِينَة تنقي النَّاس فتبقي خيارهم وتطرد شرارهم، ويناسب هَذَا الْمَعْنى قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن الْمَدِينَة كالكير تنقي خبثها وتنصع طببها) ، وَإِنَّمَا قُلْنَا يُنَاسب هَذَا الْمَعْنى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من حَيْثُ إِن حَاصِل الْمَعْنى يؤول إِلَى مَا ذكرنَا، وَإِن كَانَ لفظ الحَدِيث من النَّفْي بِالْفَاءِ.
١٧٨١ - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ قَالَ سَمِعْتُ أبَا الحُبابِ سَعِيدَ ابنَ يَسارٍ يقُولُ سَمِعْتُ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يقُولُ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تأكُلُ الْقُرى يَقُولُونَ يَثْرِبُ وهْيَ المَدِينَةُ تَنُفي النَّاسَ كَمَا يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد تقدمُوا، وَأَبُو الْحباب، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة الأولى، ويسار ضد الْيَمين وَقَالَ بَعضهم: رجال الْإِسْنَاد كلهم مدنيون. قلت: لَيْسَ كَذَلِك، فَإِن عبد الله بن يُوسُف تنيسي وَأَصله من دمشق، وَقَالَ أَبُو عمر: اتّفق الروَاة عَن مَالك على إِسْنَاده إلَاّ إِسْحَاق بن عِيسَى الطباع، فَقَالَ: عَن مَالك عَن يحيى عَن سعيد بن الْمسيب، بدل: سعيد بن يسَار، وَهُوَ خطأ قلت: لم ينْفَرد الطباع بِهَذَا، لِأَن الدَّارَقُطْنِيّ ذكر فِي كتاب (غرائب مَالك) كَمَا رَوَاهُ الطباع من حَدِيث أَحْمد بن بكر بن خَالِد السّلمِيّ عَن مَالك.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن قُتَيْبَة عَن مَالك وَعَن عَمْرو النَّاقِد وَابْن أبي عَمْرو عَن أبي مُوسَى مُحَمَّد بن الْمثنى، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي التَّفْسِير عَن قُتَيْبَة بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أمرت بقرية) ، أَي: أمرت بِالْهِجْرَةِ إِلَيْهَا وَالنُّزُول بهَا، فَإِن كَانَ قَالَ ذَلِك بِمَكَّة فَهُوَ بِالْهِجْرَةِ إِلَيْهَا، وَإِن كَانَ قَالَه بِالْمَدِينَةِ فبسكناها. قَوْله: (تَأْكُل الْقرى) ، أَي: يغلب أَهلهَا سَائِر الْبِلَاد، وَهُوَ كِنَايَة عَن الْغَلَبَة لِأَن الْآكِل غَالب على الْمَأْكُول، وَقَالَ النَّوَوِيّ: معنى الْأكل أَنَّهَا مَرْكَز جيوش الْإِسْلَام فِي أول الْأَمر فَمِنْهَا فتحت الْبِلَاد فَغنِمت أموالها. أَو أَن أكلهَا يكون من الْقرى المفتتحة وإليها تساق غنائمها، وَوَقع فِي (موطأ ابْن وهب) : قلت لمَالِك: مَا تَأْكُل الْقرى؟ قَالَ: تفتح الْقرى. وَقيل: يحْتَمل أَن يكون المُرَاد بأكلها الْقرى غَلَبَة فَضلهَا على فضل غَيرهَا، فَمَعْنَاه: أَن الْفَضَائِل تضمحل فِي جنب عَظِيم فَضلهَا حَتَّى يكَاد تكون عدما، وَقد سميت مَكَّة أم الْقرى، قيل: الْمَذْكُور للمدينة أبلغ مِنْهُ. انْتهى. قلت: الَّذِي يظْهر من كَلَامه أَنه مِمَّن يرجح الْمَدِينَة