النِّسَاء فَأرْسل إِلَى إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَقَالَ: مَا هَذِه الْمَرْأَة مِنْك؟ قَالَ: أُخْتِي وَخَافَ أَن يَقُول لَهُ هَذِه امْرَأَتي أَن يقْتله، فَلَمَّا دخلت عَلَيْهِ أَهْوى إِلَيْهَا بِيَدِهِ فيبست إِلَى صَدره، فَقَالَ لَهَا: سَلِي إلهك أَن يُطلق عني فَقَالَت سارة أللهم إِن كَانَ صَادِقا فَأطلق لَهُ يَده، فأطلقها الله، قيل: فعل ذَلِك مَرَّات، فَلَمَّا رأى ذَلِك ردهَا إِلَى إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ووهب لَهَا هَاجر وَهِي جَارِيَة قبطية. قَوْله: (وَذَلِكَ فِي ذَات الله تَعَالَى) أَي: قَول إِبْرَاهِيم لسارة: أُخْتِي لرضا الله تَعَالَى، لِأَنَّهَا كَانَت أُخْته فِي الدّين وَلم يكن يَوْمئِذٍ مُسلم غَيره وَغير سارة وَلُوط، وَقَالَ ابْن بطال: أَرَادَ البُخَارِيّ بِهَذَا التَّبْوِيب رد قَول من نهى أَن يَقُول الرجل لامْرَأَته: يَا أُخْتِي، فَمن قَالَ لامْرَأَته كَذَلِك وَهُوَ يَنْوِي مَا نَوَاه إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَلَا يضرّهُ شَيْء قَالَ أَبُو يُوسُف: إِن لم يكن لَهُ نِيَّة فَهُوَ تَحْرِيم، وَقَالَ مُحَمَّد بن الْحسن: هُوَ ظِهَار إِذا لم يكن لَهُ نِيَّة، ذكره الْخطابِيّ، وَقَالَ بَعضهم: وَقيد البُخَارِيّ بِكَوْن قَائِل ذَلِك إِذا كَانَ مكْرها لم يضرّهُ، وَتعقبه بعض الشُّرَّاح بِأَنَّهُ لم يَقع فِي قصَّة إِبْرَاهِيم إِكْرَاه، وَهُوَ كَذَلِك. قلت: لَا تعقب على البُخَارِيّ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِذكر قصَّة إِبْرَاهِيم الِاسْتِدْلَال على أَن من قَالَ ذَلِك فِي حَالَة الْإِكْرَاه لَا يضرّهُ، قِيَاسا على مَا وَقع فِي قصَّة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قلت: قَوْله: وَهُوَ كَذَلِك، لَيْسَ كَذَلِك لِأَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ يتَحَقَّق أَن هَذَا الفرعون كَانَ يقتل من خَالفه فِيمَا يردهُ، وَكَانَ حَاله فِي ذَلِك الْوَقْت مثل حَال الْمُكْره، بل أقوى، لشدَّة كفر هَذ الفرعون وَشدَّة ظلمه وتعذيبه لمن يُخَالِفهُ بِأَدْنَى شَيْء فَكيف إِذا خَالفه من حَاله فِي مثل هَذِه الْقَضِيَّة؟ وَالله أعلم.
١١ - (بابُ الطَّلاقِ فِي الإغْلاقِ والكُرْهِ والسَّكْرَانِ والمَجْنُونِ وأمْرِهما والغَلَطِ والنِّسْيان فِي الطَّلَاقِ والشِّرْكِ وغيْرِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الإغلاق أَي: الْإِكْرَاه، لِأَن الْمُكْره يغلق عَلَيْهِ فِي أمره. وَيُقَال: كَأَنَّهُ يغلق عَلَيْهِ الْبَاب ويضيق عَلَيْهِ حَتَّى يُطلق. وَقيل: لَا يُطلق التطليقات فِي دفْعَة وَاحِدَة حَتَّى لَا يبْقى مِنْهُ شَيْء، لَكِن يُطلق طَلَاق السّنة. وَفِي (الْمُحكم) وَغَيره: احتد فلَان فنشب فِي حِدته وغلق فِي (الْجَامِع) : غلق إِذا غضب غَضبا شَدِيدا، وَلما ذكر الْفَارِسِي فِي كِتَابه (مجمع الغرائب) قَول من قَالَ: الإغلاق الْغَضَب، قَالَ: هَذَا غلط لِأَن أَكثر طَلَاق النَّاس فِي الْغَضَب إِنَّمَا هُوَ الْإِكْرَاه، وَأخرج أَبُو دَاوُد حَدِيث عَائِشَة: (لَا طَلَاق وَلَا عتاق فِي إغلاق) ، قَالَ أَبُو دَاوُد: الغلاق أَظُنهُ الْغَضَب، وَترْجم على الحَدِيث الطَّلَاق على غيظ، وَوَقع عِنْده بِغَيْر ألف فِي أَوله، وَحكى الْبَيْهَقِيّ أَنه روى بِالْوَجْهَيْنِ، فَوَقع عِنْد ابْن مَاجَه فِي هَذَا الحَدِيث: الإغلاق، بِالْألف، وَترْجم عَلَيْهِ: طَلَاق الْمُكْره، وَقَالَ ابْن المرابط: الإغلاق حرج النَّفس وَلَيْسَ يَقع على أَن مرتكبه فَارق عقله حَتَّى صَار مَجْنُونا فيدعى أَنه كَانَ فِي غير عقله، وَلَو جَازَ هَذَا لَكَانَ لكل وَاحِد من خلق الله عز وَجل مِمَّن يجوز عَلَيْهِ الْحَرج أَن يَدعِي فِي كل مَا جناه أَنه كَانَ فِي حَال إغلاق فَتسقط عَنهُ الْحُدُود وَتصير الْحُدُود خَاصَّة لَا عَامَّة لغير الْحَرج، وَقَالَ ابْن بطال: فَإِذا ضيق على الْمُكْره وشدد عَلَيْهِ لم يَقع حكم طَلَاقه، فَكَأَنَّهُ لم يُطلق. وَفِي (مُصَنف ابْن أبي شيبَة) : أَن الشّعبِيّ كَانَ يرى طَلَاق الْمُكْره جَائِزا، وَكَذَا قَالَه إِبْرَاهِيم وَأَبُو قلَابَة وَابْن الْمسيب وَشُرَيْح. وَقَالَ ابْن حزم: وَصَحَّ أَيْضا عَن الزُّهْرِيّ وَقَتَادَة وَسَعِيد بن جُبَير. وَبِه أَخذ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه، وروى الْفرج بن فضَالة عَن عَمْرو بن شرَاحِيل أَن امْرَأَة أكرهت زَوجهَا على طَلاقهَا فَطلقهَا، فَرفع ذَلِك إِلَى عمر فَأمْضى طَلاقهَا. وَعَن ابْن عمر نَحوه، وَكَذَا عَن عمر بن عبد الْعَزِيز، وَأما من لم يره شَيْئا فعلي بن أبي طلب وَابْن عمر وَابْن الزبير وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَعَطَاء وَالْحسن بن أبي الْحسن وَعبد الله بن عَبَّاس وَعمر بن الْخطاب وَالضَّحَّاك. قَالَ ابْن حزم: وَصَحَّ أَيْضا عَن طَاوُوس وَجَابِر بن زيد قَالَ: وَهُوَ قَول مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَالْحسن بن حيى وَالشَّافِعِيّ وَأبي سُلَيْمَان وأصحابهم، وَعَن إِبْرَاهِيم تَفْصِيل آخر، وَهُوَ أَنه: إِن ورى الْمُكْره لم يَقع، وإلَاّ وَقع. وَقَالَ الشّعبِيّ: إِن أكرهه اللُّصُوص وَقع وَإِن أكرهه السُّلْطَان فَلَا، أخرجه ابْن أبي شيبَة. قَوْله: (والكره) بِضَم الْكَاف وسكوت الرَّاء فِي النّسخ كلهَا وَهُوَ بِالْجَرِّ ظَاهره أَنه عطف على قَوْله: (فِي الإغلاق) لَكِن هَذَا لَا يَسْتَقِيم إلَاّ إِذا فسر الإغلاق بِالْغَضَبِ كَمَا فسره أَبُو دَاوُد وَترْجم عَلَيْهِ بقوله: الطَّلَاق على غيظ. وَلَكِن فِي رِوَايَته الغلاق، بِدُونِ الْألف فِي أَوله. وَقد فسروه أَيْضا مَعَ وجود الْألف فِي أَوله بِالْغَضَبِ، وَلَكِن إِن قدر قبل الْكَاف مِيم لِأَنَّهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute