وَقبُول هديته وجائزته، فرخصت فِيهِ طَائِفَة، فَكَانَ الْحسن بن أبي الْحسن لَا يرى بَأْسا أَن يَأْكُل الرجل من طَعَام العشار والصراف وَالْعَامِل، وَيَقُول: قد أحل الله طَعَام الْيَهُود وَالنَّصَارَى، وَقد أخبر أَن الْيَهُود أكالون للسحت. قَالَ الْحسن: مَا لم يعرفوا شَيْئا مِنْهُ حَرَامًا، يَعْنِي: معينا. وَعَن الزُّهْرِيّ وَمَكْحُول: إِذا كَانَ المَال فِيهِ حرَام وحلال فَلَا بَأْس أَن يُؤْكَل مِنْهُ، إِنَّمَا يكره من ذَلِك الشَّيْء الَّذِي يعرف بِعَيْنِه، وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا أحب مبايعة من أَكثر مَاله رَبًّا أَو كَسبه من حرَام، فَإِن بُويِعَ لَا يفْسخ البيع. وَقَالَ ابْن بطال: وَالْمُسلم وَالذِّمِّيّ وَالْحَرْبِيّ فِي هَذَا سَوَاء، وَحجَّة من رخص حَدِيث الْبَاب، وَحَدِيث رَهنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم درعه عِنْد الْيَهُودِيّ، وَكَانَ ابْن عمر وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، يأخذان هَدَايَا الْمُخْتَار، وَبعث عَمْرو بن عبيد الله بن معمر إِلَى ابْن عمر بِأَلف دِينَار، وَإِلَى الْقَاسِم بن مُحَمَّد بِأَلف دِينَار فَأَخذهَا ابْن عمر وَقَالَ: لقد جاءتنا على حَاجَة، وأبى أَن يقبلهَا الْقَاسِم، فَقَالَت امْرَأَته: إِن لم تقبلهَا فَأَنا ابْنة عَمه كَمَا هُوَ ابْن عَمه، فأخذتها. وَقَالَ عَطاء: بعث مُعَاوِيَة إِلَى عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، بطوق من ذهب فِيهِ جَوْهَر قوم بِمِائَة ألف، وقسمته بَين أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ. وكرهت طَائِفَة الْأَخْذ مِنْهُم رُوِيَ ذَلِك عَن مَسْرُوق وَسَعِيد بن الْمسيب وَالقَاسِم بن مُحَمَّد وَبشر بن سعيد وطاووس وَابْن سِيرِين وَالثَّوْري وَابْن الْمُبَارك وَمُحَمّد بن وَاسع وَأحمد، وَأخذ ابْن الْمُبَارك قذاة من الأَرْض وَقَالَ: من أَخذ مِنْهُم مثل هَذِه فَهُوَ مِنْهُم.
٠٠١ - (بابُ شِرَاءِ المَمْلُوكِ مِنَ الحَرْبِيِّ وهِبَتِهِ وعِتْقِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم شِرَاء الْمَمْلُوك من الْحَرْبِيّ، وَحكم هِبته وعتقه. وَقَالَ ابْن بطال: غَرَض البُخَارِيّ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِثْبَات ملك الْحَرْبِيّ وَجَوَاز تصرفه فِي ملكه بِالْبيعِ وَالْهِبَة وَالْعِتْق وَغَيرهَا، إِذْ أقرّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سلمَان عِنْد مَالِكه من الْكفَّار وَأمره أَن يُكَاتب، وَقبل الْخَلِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، هبة الْجَبَّار وَغير ذَلِك مِمَّا تضمنه أَحَادِيث الْبَاب.
وَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِسَلْمَانَ كاتِبْ وكانَ حُرّا فَظَلَمُوهُ وباعُوهُ
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يعلم من قَضِيَّة سلمَان تَقْرِير أَحْكَام الْحَرْبِيّ على مَا كَانَ عَلَيْهِ، وسلمان هُوَ الْفَارِسِي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وقصته طَوِيلَة على مَا ذكره ابْن إِسْحَاق وَغَيره، وملخصها: أَنه هرب من أَبِيه لطلب الْحق وَكَانَ مجوسيا، فلحق براهب ثمَّ براهب ثمَّ بآخر، وَكَانَ يصحبهم إِلَى وفاتهم حَتَّى دله الْأَخير إِلَى الْحجاز وَأخْبرهُ بِظُهُور رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فقصده مَعَ بعض الْأَعْرَاب فغدروا بِهِ وباعوه فِي وَادي الْقرى ليهودي، ثمَّ اشْتَرَاهُ مِنْهُ يَهُودِيّ آخر من بني قُرَيْظَة، فَقدم بِهِ الْمَدِينَة، فَلَمَّا قدم رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَرَأى عَلَامَات النُّبُوَّة أسلم، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كَاتب عَن نَفسك، عَاشَ مِائَتَيْنِ وَخمسين سنة، وَقيل: مِائَتَيْنِ وَخمْس وَسبعين سنة، وَمَات سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ بالمداين.
ثمَّ هَذَا التَّعْلِيق الَّذِي علقه البُخَارِيّ أخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) . وَالْحَاكِم من حَدِيث زيد بن صوحان سلمَان. وَأخرجه أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ من حَدِيث مَحْمُود بن لبيد عَن سلمَان. قَالَ: كنت رجلا فارسيا ... فَذكر الحَدِيث بِطُولِهِ، وَفِيه: ثمَّ مر بِي نفر من بني كلب تجار، فحملوني مَعَهم حَتَّى إِذا قدمُوا وَادي الْقرى ظلموني فباعوني من رجل يَهُودِيّ ... الحَدِيث، وَفِيه: فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كَاتب يَا سلمَان. قَالَ: فكاتب صَاحِبي على ثَلَاثمِائَة ودية ... الحَدِيث، وَفِي حَدِيث الْحَاكِم مَا يدل أَنه هُوَ ملك رقبته لَهُم، وَعِنْده من حَدِيث أبي الطُّفَيْل عَن سلمَان وَصَححهُ، وَفِيه: فَمر نَاس من أهل مَكَّة فسألتهم عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالُوا نعم، ظهر منا رجل يزْعم أَنه نَبِي، فَقلت لبَعْضهِم: هَل لكم أَن أكون عبدا لبعضكم على أَن تحملوني عقبَة وتطعموني من الْكسر، فَإِذا بَلغْتُمْ إِلَى بِلَادكُمْ فَمن شَاءَ أَن يَبِيع بَاعَ وَمن شَاءَ أَن يستعبد استعبد؟ فَقَالَ رجل مِنْهُم: أَنا، فصرت عبدا لَهُ حَتَّى أَتَى بِي مَكَّة فجعلني فِي بُسْتَان لَهُ ... الحَدِيث.
قَوْله: (كَاتب) أَمر من الْمُكَاتبَة. قَوْله: (وَكَانَ حرا) ، جملَة وَقعت حَالا من: قَالَ، لَا من قَوْله: (كَاتب) ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: كَيفَ أمره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْكِتَابَةِ وَهُوَ حر؟ قلت: أَرَادَ بِالْكتاب صُورَة الْكِتَابَة لَا حَقِيقَتهَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أفد عَن نَفسك وتخلص من ظلمه. انْتهى. قلت: هَذَا السُّؤَال غير وَارِد، فَلَا يحْتَاج إِلَى الْجَواب، فَكَانَ الْكرْمَانِي اعْتقد أَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَكَانَ حرا، يَعْنِي فِي حَال الْكِتَابَة، فَإِنَّهُ فِي ذَلِك الْوَقْت كَانَ فِي ملك الَّذِي اشْتَرَاهُ لِأَنَّهُ غلب عَلَيْهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute