الْمَذْكُور الَّذِي رَوَاهُ أَبُو يعلى يدل على أَن المُرَاد الثَّنَاء المطابق بِدَلِيل قَوْله: (قد قبلت علمكُم) ، وَالْعلم لَا يُخَالف الْوَاقِع. قلت: المُرَاد بِالْعلمِ: الشَّهَادَة، كَمَا فِي الحَدِيث الْمَذْكُور الَّذِي رَوَاهُ أَبُو يعلى عَن ابْن عمر، وَكَذَلِكَ فِي (مُسْند أَحْمد) فِي هَذَا الحَدِيث عَن أبي هُرَيْرَة: (قد قبلت شَهَادَتهم) ، وَمعنى قَوْله: (غفرت لَهُ مَا لَا يعلمُونَ) ، أَي: من الذُّنُوب الَّتِي لم يطلعوا عَلَيْهَا. فَإِن قلت: عل تشْتَرط فِي هَذِه الشَّهَادَة الْعَدَالَة كَسَائِر الشَّهَادَات؟ أم تَكْفِي فِي ذَلِك شَهَادَة الْمُسلمين وَإِن لم يَكُونُوا بِوَصْف الْعَدَالَة المشترطة فِي الشَّهَادَة؟ قلت: يدل على الأول حَدِيث كَعْب بن عجْرَة الَّذِي ذَكرْنَاهُ آنِفا، لِأَنَّهُ قَالَ فِيهِ: (فَقَامَ رجلَانِ ذَوا عدل) ، وعَلى الثَّانِي يدل ظَاهر حَدِيث الْبَاب، وَمَعَ هَذَا الأَصْل فِي الشَّهَادَة الْعَدَالَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: فَضِيلَة هَذِه الْأمة. وَفِيه: إِعْمَال الحكم بِالظَّاهِرِ. وَفِيه: جَوَاز ذكر الْمَرْء بِمَا فِيهِ من خير أَو شَرّ للْحَاجة، وَلَا يكون ذَلِك من الْغَيْبَة، وَذكر الْغَزالِيّ وَالنَّوَوِيّ إِبَاحَة الْعلمَاء الْغَيْبَة فِي سِتَّة مَوَاضِع، فَهَل تُبَاح فِي حق الْمَيِّت أَيْضا؟ وَإِن مَا جَازَ غيبَة الْحَيّ بِهِ جَازَت غيبَة الْمَيِّت بِهِ، أم يخْتَص جَوَاز الْغَيْبَة فِي هَذِه الْمَوَاضِع المستثناة بِالْإِحْيَاءِ، يَنْبَغِي أَن ينظر فِي السَّبَب الْمُبِيح للغيبة إِن كَانَ قد انْقَطع بِالْمَوْتِ كالمصاهرة والمعاملة، فَهَذَا لَا يذكر فِي حق الْمَيِّت، لِأَنَّهُ قد انْقَطع ذَلِك بِمَوْتِهِ، وَإِن لم يَنْقَطِع ذَلِك بِمَوْتِهِ كجرح الروَاة وَكَونه يُؤْخَذ عَنهُ اعْتِقَاد أَو نَحوه فَلَا بَأْس بِذكرِهِ بِهِ ليحذر ويتجنب. وَفِيه: جَوَاز الشَّهَادَة قبل الاستشهاد. وَفِيه: اعْتِبَار مَفْهُوم الْمُوَافقَة لِأَنَّهُ سَأَلَ عَن الثَّلَاثَة وَلم يسْأَل عَمَّا فَوق الْأَرْبَعَة كالخمسة مثلا. وَفِيه: أم مَفْهُوم الْعدَد لَيْسَ دَلِيلا قَطْعِيا، بل هُوَ فِي مقَام الِاحْتِمَال.
٦٨ - (بابُ مَا جاءَ فِي عَذَابِ القَبْرِ وقولهُ تَعَالَى: {وَلَوْ تَراي إذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ المَوْتِ وَالمَلَائِكَةُ باسِطُوا أيْدِيهِم أخْرِجُوا أنْفُسَكُمْ اليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} (الْأَنْعَام: ٣٩) . الهُونُ هُوَ الهَوَانُ والهَوْنُ الرِّفْقُ. وقولُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثمَّ يُرَدُّونَ إلَى عَذَابٍ عَظِيم} وَقولُهُ تَعَالَى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ العَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوَّا وَعَشِيّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أشَدَّ العَذَابِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا جَاءَ من الْأَخْبَار فِي حقية عَذَاب الْقَبْر، وَأَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى مُجَرّد وجود عَذَاب الْقَبْر دون التَّعَرُّض أَنه يَقع على الرّوح وَحده أَو عَلَيْهِ وعَلى الْبدن. وَفِي هَذَا الْبَاب خلاف مَشْهُور بَين أهل السّنة والمعتزلة، وَقد بسطنا الْكَلَام فِيهِ فِي: بَاب الْمَيِّت يسمع خَفق النِّعَال، ثمَّ إِن البُخَارِيّ ذكر هَذِه الْآيَات الْكَرِيمَة الثَّلَاث تَنْبِيها على ثُبُوت ذكر عَذَاب الْقَبْر فِي الْقُرْآن، وردا على من ادّعى عدم ذكره فِي الْقُرْآن، وَأَن ذكره ورد فِي أَخْبَار الْآحَاد الْآيَة الأولى هُوَ قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة الْأَنْعَام: {وَلَو ترى إِذْ الظَّالِمُونَ} (الْأَنْعَام: ٣٩) . أَشَارَ إِلَيْهَا بقوله، و: قَوْله تَعَالَى، بِالْجَرِّ عطفا على قَوْله: عَذَاب الْقَبْر. قَوْله: {وَلَو ترى} (الْأَنْعَام: ٣٩) . خطاب للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَجَوَاب: لَو، مَحْذُوف أَي: لرأيت أمرا عجيبا عَظِيما وَكلمَة إِذْ ظرف مُضَاف إِلَى جملَة إسمية، وَهِي قَوْله: {الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَات الْمَوْت} (الْأَنْعَام: ٣٩) . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: يُرِيد الظَّالِمين الَّذين ذكرهم من الْيَهُود والمتنبئة فَتكون اللَّام للْعهد، وَيجوز أَن تكون للْجِنْس فَيدْخل فِيهِ هَؤُلَاءِ لاشْتِمَاله، وَقَالَ غَيره: المُرَاد من الظَّالِمين هَؤُلَاءِ قوم كَانُوا أَسْلمُوا بِمَكَّة أخرجهم الْكفَّار إِلَى قتال بدر، فَلَمَّا أبصروا أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجعُوا عَن الْإِيمَان، وَقيل: هم الَّذين قَالُوا: {مَا أنزل الله على بشر من شَيْء} (الْأَنْعَام: ١٩) . قَوْله: {فِي غَمَرَات الْمَوْت} (الْأَنْعَام: ٣٩) . أَي: فِي شدائده وَسَكَرَاته وكرباته وَهُوَ جمع غمرة، وأصل الغمرة مَا يغمر من المَاء فاستعيرت للشدة الْغَالِبَة. قَوْله: {باسطوا أَيْديهم} (الْأَنْعَام: ٣٩) . قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: يبسطون إِلَيْهِم، يَقُول: هاتوا أرواحكم أخرجوها إِلَيْنَا من أجسادكم، وَهَذِه عبارَة عَن العنف فِي السِّيَاق والإلحاح وَالتَّشْدِيد فِي الإزهاق من غير تَنْفِيس، وإمهال. وَقَالَ اضحاك وَأَبُو صَالح: باسطوا أَيْديهم بِالْعَذَابِ، وروى الطَّبَرَانِيّ وَابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَو ترى إِذْ الظَّالِمُونَ} (الْأَنْعَام: ٣٩) . الْآيَة، قَالَ: هَذَا عِنْد الْمَوْت، والبسط: الضَّرْب، يضْربُونَ وُجُوههم وأدبارهم. فَإِن قلت: التَّرْجَمَة فِي عَذَاب الْقَبْر، وَهَذَا قبل الدّفن؟ قلت: هَذَا من جملَة الْعَذَاب
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute