ليمسكها حَتَّى تطهر ثمَّ تحيض فَتطهر، فَإِن بدا لَهُ أَن يطلقهَا فَلْيُطَلِّقهَا طَاهِرا قبل أَن يَمَسهَا، فَتلك الْعدة كَمَا أَمر الله) قَوْله:(على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي فِي زَمَنه وأيامه، كَذَا وَقع هَذَا فِي رِوَايَة مَالك، وَكَذَا وَقع عِنْد مُسلم فِي رِوَايَة أبي الزبير عَن ابْن عمر، وَأكْثر الروَاة لم يذكرُوا هَذَا لِأَن قَوْله فَسَأَلَهُ عمر عَن ذَلِك يُغني عَن هَذَا. قَوْله:(فَسَأَلَ عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك) ، أَي: عَن حكم طَلَاق ابْنه عبد الله على هَذَا الْوَجْه، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن أبي ذِئْب عَن نَافِع: فَأتى عمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكر لَهُ ذَلِك، أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة مُسلم فِي رِوَايَة يُونُس بن عبيد عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن يُونُس بن جُبَير. قَوْله:(مره) أَي: مر عبد الله.
اخْتلفُوا فِي معنى هَذَا الْأَمر، فَقَالَ مَالك: هَذَا للْوُجُوب وَمن طلق زَوجته حَائِضًا أَو نفسَاء فَإِنَّهُ يجْبر على رَجعتهَا فسوى دم النّفاس بِدَم الْحيض، وَقَالَ ابْن أبي ليلى وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر، وَهُوَ قَول الْكُوفِيّين: يُؤمر برجعتها وَلَا يجْبر على ذَلِك، وحملوا الْأَمر فِي ذَلِك على النّدب ليَقَع الطَّلَاق على سنة. وَفِي (التَّوْضِيح) : وهم من قَالَ: إِن قَوْله: (مره فَلْيُرَاجِعهَا) من كَلَام ابْن عمر لَا من كَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَن صَرِيح فِيهِ وَقَول بَعضهم: إِنَّه أَمر عمر لِابْنِهِ أغرب مِنْهُ، وَهَهُنَا مَسْأَلَة أصولية، وَهِي أَن الْأَمر بِالْأَمر بالشَّيْء: هَل هُوَ أَمر بذلك الشَّيْء أم لَا، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: مره، فَأمره بِأَن يَأْمر بأَمْره حَكَاهَا ابْن الْحَاجِب، فَقَالَ: الْأَمر بِالْأَمر بالشَّيْء لَيْسَ أمرا بذلك الشَّيْء، وَقَالَ الرَّازِيّ: الْأَمر بِالْأَمر بالشي أَمر بالشَّيْء وبسطها فِي الْأُصُول.
قَوْله:(فَلْيُرَاجِعهَا) فِي رِوَايَة أَيُّوب عَن نَافِع: فَأمره أَن يُرَاجِعهَا، وَفِي رِوَايَة لمُسلم: فَرَاجعهَا عبد الله كَمَا أمره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاخْتلف فِي وجوب الرّجْعَة فَذهب إِلَيْهِ مَالك وَأحمد فِي رِوَايَة، وَالْمَشْهُور عَنهُ، وَهُوَ قَول الْجُمْهُور: إِنَّهَا مُسْتَحبَّة، وَذكر صَاحب (الْهِدَايَة) أَنَّهَا وَاجِبَة لوُرُود الْأَمر بهَا. قَوْله:{ليمسكها} أَي: ليستمر بهَا فِي عصمته حَتَّى تطهر ثمَّ تحيض ثمَّ تطهر، وَفِي رِوَايَة عبيد الله بن عمر عَن نَافِع: ثمَّ لِيَدَعْهَا حَتَّى تطهر ثمَّ تحيض حَيْضَة أُخْرَى، فَإِذا طهرت فَلْيُطَلِّقهَا، وَنَحْوه فِي رِوَايَة اللَّيْث وَأَيوب عَن نَافِع، وَكَذَا عِنْد مُسلم فِي رِوَايَة عبد الله بن دِينَار. قَوْله:(إِن شَاءَ أمسك بعد) أَي: بعد الطُّهْر من الْحيض الثَّانِي قَوْله: (قبل أَن يمس) أَي: قبل أَن يُجَامع. قَوْله:(فَتلك الْعدة الَّتِي أَمر الله تَعَالَى) أَي بقوله: {فطلقوهن لعدتهن}(الطَّلَاق: ١) وَقَالَ الْكرْمَانِي: اللَّام بِمَعْنى: فِي يَعْنِي فِي يعْنى فِي قَوْله: أَن يُطلق لَهَا النِّسَاء. قلت: لَا نسلم أَن اللَّام هَهُنَا بِمَعْنى الظّرْف لِأَن مَعَانِيهَا الَّتِي جَاءَت لَيْسَ فِيهَا مَا يدل على كَونهَا ظرفا بل اللَّام هُنَا للاستقبال كَمَا فِي قَوْلهم: تأهب للشتاء، وكما فِي قَوْلهم: لثلاث بَقينَ من الشَّهْر، أَي مُسْتَقْبلا لثلاث، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي قَوْله تَعَالَى:{فطلقوهن لعدتهن} يَعْنِي: مستقبلات لعدتهن.
ويستنبط من هَذَا الحَدِيث أَحْكَام: الأول: أَن الطَّلَاق فِي الْحيض محرم وَلكنه وَاقع، وَذكر عِيَاض عَن الْبَعْض أَنه لَا يَقع. قلت: هُوَ قَول الظَّاهِرِيَّة، وروى مثل ذَلِك عَن بعض التَّابِعين وَهُوَ شذوذ لم يعرج عَلَيْهِ أصلا. الثَّانِي: أَن الْأَمر فِيهِ بالرجعة على الْوُجُوب أم لَا؟ . وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب. الثَّالِث: يُسْتَفَاد مِنْهُ أَن طَلَاق السّنة أَن يكون فِي طهر الرَّابِع: قَوْله: (فَلْيُرَاجِعهَا) دَلِيل على أَن الطَّلَاق غير الْبَائِن لَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى رضَا الْمَرْأَة. الْخَامِس: فِيهِ دَلِيل على أَن الرّجْعَة تصح بالْقَوْل، وَلَا خلاف فِيهِ. وَأما بِالْفِعْلِ فَفِيهِ خلاف، فَأَبُو حنيفَة أثْبته، وَالشَّافِعِيّ نَفَاهُ. السَّادِس: اسْتدلَّ بِهِ أَبُو حنيفَة أَن من طلق امْرَأَته وَهِي حَائِض أَثم وَيَنْبَغِي لَهُ أَن يُرَاجِعهَا، فَإِن تَركهَا حَتَّى مَضَت الْعدة بَانَتْ مِنْهُ بِطَلَاق، وَفِي هَذَا الْموضع كَلَام كثير جدا، فَمن أَرَادَ الْوُقُوف عَلَيْهِ فَليُرَاجع إِلَى (شرحنا لمعاني الْآثَار للطحاوي) رَحمَه الله تَعَالَى.