للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

من المَال لم يُغير الْمَسْجِد عَن بُنْيَانه الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ فِي عهد النَّبِي، ثمَّ جَاءَ الْأَمر إِلَى عُثْمَان وَالْمَال فِي زَمَانه أَكثر وَلم يزدْ على أَن يَجْعَل مَكَان اللَّبن حِجَارَة وقصة وسقفه بالساج مَكَان الجريد، فَلم يقصر هُوَ وَعمر رَضِي اعنهما، عَن الْبلُوغ فِي تشييده إِلَى أبلغ الغايات، إلَاّ عَن علمهما بِكَرَاهَة النَّبِي ذَلِك، وليقتدي بهما فِي الْأَخْذ من الدُّنْيَا بِالْقَصْدِ والزهد والكفاية فِي معالي أمورها وإيثار الْبلْغَة مِنْهَا.

قلت: أول من زخرف الْمَسَاجِد الْوَلِيد بن عبد الْملك بن مَرْوَان، وَذَلِكَ فِي أَوَاخِر عصر الصَّحَابَة رَضِي اتعالى عَنْهُم، وَسكت كثير من أهل الْعلم عَن إِنْكَار ذَلِك خوفًا من الْفِتْنَة. وَقَالَ ابْن الْمُنِير: لما شيد النَّاس بُيُوتهم وزخرفوها فَانْتدبَ أَن يصنع ذَلِك بالمساجد صونا لَهَا عَن الاستهانة. وَقَالَ بَعضهم: وَرخّص فِي ذَلِك بَعضهم، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة إِذا وَقع ذَلِك على سَبِيل التَّعْظِيم للمساجد، وَلم يَقع الصّرْف على ذَلِك من بَيت المَال. قلت: مَذْهَب أَصْحَابنَا أَن ذَلِك مَكْرُوه، وَقَول بعض أَصْحَابنَا: وَلَا بَأْس بنقش الْمَسْجِد، مَعْنَاهُ: تَركه أولى، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب.

٣٦ - (بابُ التَّعَاوُنِ فِي بِنَاءِ المَسْجِدِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تعاون النَّاس بَعضهم بَعْضًا فِي بِنَاء الْمَسْجِد، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن فِي ذَلِك أجرا، وَمن زَاد فِي عمله فِي ذَلِك زَاد فِي أجره، وَفِي بعض النّسخ: فِي بَاء الْمَسَاجِد، بِلَفْظ الْجمع.

وَقَوْلُ اللَّهِ {مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلَى أنْفُسِهِمْ بِالكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أعْمَالُهُمْ وفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ. إِنَّما يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ باللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَى إِلَاّ اللَّهَ فَعَسَى أولَئِكَ أنْ يَكونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ} (التَّوْبَة: ٧١ ٨١) .

١٣

- ٥٠ كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: ( {مَا كَانَ للْمُشْرِكين إِن يعمروا مَسَاجِد ا} ) إِلَى قَوْله: {المهتدين} (التَّوْبَة: ٧١ ٨١) وَلم يَقع فِي رِوَايَته لفظ: وَقَول اعز وَجل.

وَسبب نزُول هَذِه الْآيَة أَنه لما أسر الْعَبَّاس، رَضِي اتعالى عَنهُ، يَوْم بدر، أقبل عَلَيْهِ الْمُسلمُونَ فعيرونه بالْكفْر وَأَغْلظ لَهُ عَليّ رَضِي اتعالى عَنهُ، فَقَالَ الْعَبَّاس: مَا لكم تذكرُونَ مساوينا دون محاسننا؟ فَقَالَ لَهُ لي ألكم محَاسِن؟ قَالَ؛ نعم إِنَّا لنعمر الْمَسْجِد الْحَرَام ونحجب الْكَعْبَة ونسقي الْحَاج ونفك العاني، فَأنْزل اتعالى هَذِه الْآيَة. وَقَالَ بَعضهم فِي تَوْجِيه ذكر البُخَارِيّ هَذِه الْآيَة هَهُنَا وَذكره هَذِه الْآيَة مصير مِنْهُ إِلَى تَرْجِيح أحد الِاحْتِمَالَيْنِ من أحد الِاحْتِمَالَيْنِ، وَذَلِكَ أَن قَوْله تَعَالَى: {مَسَاجِد ا} (التَّوْبَة: ٧١ ٨١) يحْتَمل أَن يُرَاد بهَا مَوَاضِع السُّجُود، وَيحْتَمل أَن يُرَاد بهَا الْأَمَاكِن المتخذة لإِقَامَة الصَّلَاة، وعَلى الثَّانِي يحْتَمل أَن يُرَاد بعمارتها بنيانها، وَيحْتَمل أَن يُرَاد الْإِقَامَة فِيهَا لذكر اتعالى قلت: هَذَا الَّذِي قَالَه هَذَا الْقَائِل لَا يُنَاسب معنى هَذِه الْآيَة أصلا، وَإِنَّمَا يُنَاسب معنى قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يعمر مَسَاجِد امن آمن با وَالْيَوْم الآخر ... } (التَّوْبَة: ٨١) الْآيَة، على أَن أحدا من الْمُفَسّرين لم يذكر هَذَا الْوَجْه الَّذِي ذكره هَذَا الْقَائِل، وَإِنَّمَا هَذَا تصرف مِنْهُ بِالرَّأْيِ فِي الْقُرْآن فَلَا يجوز ذَلِك، وَيجب الْإِعْرَاض عَن هَذَا. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: معنى هَذِه الْآيَة: مَا يَنْبَغِي للْمُشْرِكين با أَن يعمروا مَسَاجِد االتي بنيت على اسْمه وَحده لَا شريك لَهُ، وَمن قَرَأَ مَسْجِد اأراد بِهِ الْمَسْجِد الْحَرَام، أشرف الْمَسَاجِد فِي الأَرْض الَّتِي بنى من أول يَوْم على عبَادَة اتعالى وَحده لَا شريك لَهُ، وأسسه خَلِيل الرَّحْمَن عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، هَذَا وهم شاهدون على أنفسهم بالْكفْر. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: أما الْقِرَاءَة بِالْجمعِ فَفِيهَا وَجْهَان: أَحدهمَا: أَن يُرَاد بِهِ الْمَسْجِد الْحَرَام؟ وَإِنَّمَا قيل: مَسَاجِد الأنه قبْلَة الْمَسَاجِد كلهَا، وإمامها، فعامره كعامر جَمِيع الْمَسَاجِد، وَلِأَن كل بقْعَة مِنْهُ مَسْجِد.

وَالثَّانِي: أَن يُرَاد بِهِ جنس الْمَسَاجِد، فَإِذا لم يصلحوا أَن يعمروا جِنْسهَا دخل تَحت ذَلِك أَن لَا يعمروا الْمَسْجِد الْحَرَام الَّذِي هُوَ صدر الْجِنْس ومقدمته، وَهُوَ آكِد، لِأَن طَرِيقه طَرِيق الْكِنَايَة، كَمَا لَو قلت: فلَان لَا يقْرَأ كتب ا، كنت أنفى لقِرَاءَة الْقُرْآن من تصريحك بذلك، ثمَّ إِن البُخَارِيّ ذكر هَذِه الْآيَة من جملَة التَّرْجَمَة وَحَدِيث الْبَاب لَا يطابقها، وَلَو ذكر قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يعمر مَسَاجِد امن آمن با ... } (التَّوْبَة: ٨١) الْآيَة لَكَانَ أَجْدَر وَأقرب للمطابقة وَلَكِن يُمكن أَن يُوَجه ذَلِك وَإِن كَانَ فِيهِ بعض تعسف، وَهُوَ أَن يُقَال: إِنَّه أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن التعاون فِي بِنَاء الْمَسَاجِد الْمُعْتَبر الَّذِي فِيهِ الْأجر إِنَّمَا كَانَ للْمُؤْمِنين، وَلم يكن ذَلِك للْكَافِرِينَ، وَإِن كَانُوا بنوا

<<  <  ج: ص:  >  >>