أَن مَا يُولد من الْغِرَاس وَالزَّرْع كَذَلِك، فَقَالَ فِيهِ: إِن أجر فَاعل ذَلِك مُسْتَمر مَا دَامَ الْغِرَاس وَالزَّرْع وَمَا يُولد مِنْهُ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَفِيه: أَن الْغَرْس وَالزَّرْع واتخاذ الصَّنَائِع مُبَاح وَغير قَادِح فِي الزّهْد، وَقد فعله كثير من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَقد ذهلب قوم من المتزهدة إِلَى أَن ذَلِك مَكْرُوه وقادح فِي الزّهْد، ولعلهم تمسكوا فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن ابْن مَسْعُود مَرْفُوعا: (لَا تَتَّخِذُوا الضَّيْعَة فتركنوا إِلَى الدُّنْيَا) ، وَقَالَ: حَدِيث حسن، وَرَوَاهُ ابْن حبَان أَيْضا فِي (صَحِيحه) . وَأجِيب بِأَن هَذَا النَّهْي مَحْمُول على الاستكثار من الضّيَاع والانصراف إِلَيْهَا بِالْقَلْبِ الَّذِي يُفْضِي بِصَاحِبِهِ إِلَى الركون إِلَى الدُّنْيَا. وَأما إِذا اتخذها غير مستكثر وقلل مِنْهَا، وَكَانَت لَهُ كفافاً وعفافاً، فَهِيَ مُبَاحَة غير قادحة فِي الزّهْد، وسبيلها كسبيل المَال الَّذِي اسْتَثْنَاهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله: (إلَاّ من أَخذه بِحقِّهِ وَوَضعه فِي حَقه) . وَفِيه: الحض على عمَارَة الأَرْض لنَفسِهِ وَلمن يَأْتِي بعده. . وَفِيه: جَوَاز نِسْبَة الزَّرْع إِلَى الْآدَمِيّ، والْحَدِيث الَّذِي ورد فِيهِ الْمَنْع غير قوي، وَفِيه: قَالَ الطَّيِّبِيّ: نكر مُسلما فاوقعه فِي سِيَاق النَّفْي، وَزَاد: من، الاستغراقية، وَعم الْحَيَوَان ليدل على سَبِيل الْكِنَايَة، على أَن أَي مُسلم كَانَ حرا أَو عبدا مُطيعًا أَو عَاصِيا يعْمل أَي عمل من الْمُبَاح ينْتَفع بِمَا عمله أَي حَيَوَان كَانَ، يرجع نَفعه إِلَيْهِ ويثاب عَلَيْهِ.
وَقَالَ لَنَا مُسْلِمٌ قَالَ حدَّثنا أبانُ قَالَ حدَّثنا أنَسٌ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
كَذَا وَقع: قَالَ لنا مُسلم، فِي رِوَايَة أبي ذَر والأصيلي وكريمة، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ وَآخَرين: وَقَالَ وَلمُسلم، بِدُونِ لفظ: لنا، وَمُسلم هُوَ ابْن إِبْرَاهِيم الْأَزْدِيّ الفراهيدي مَوْلَاهُم القصاب الْبَصْرِيّ، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَأَبَان بن يزِيد الْعَطَّار، وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : كَذَا ذكره عَن شَيْخه مُسلم بِغَيْر لفظ التحديث حَتَّى قَالَ بعض الْعلمَاء: إِنَّه مُعَلّق، وأبى ذَلِك الْحَافِظ أَبُو نعيم، فَزعم أَن البُخَارِيّ روى عَنهُ هَذَا الحَدِيث. وأتى بِهِ لتصريح قَتَادَة فِيهِ بِسَمَاعِهِ من أنس ليسلم من تَدْلِيس قَتَادَة. وَأخرجه مُسلم أَيْضا عَن عبد بن حميد: حَدثنَا مُسلم بن إِبْرَاهِيم حَدثنَا أبان بن يزِيد الْعَطَّار حَدثنَا قَتَادَة (حَدثنَا أنس بن مَالك: أَن نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل نخلا لأم مُبشر امْرَأَة من الْأَنْصَار فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من غرس هَذَا النّخل؟ مُسلم أَو كَافِر؟ قَالُوا: مُسلم) . بنحوهم، يَعْنِي: بِنَحْوِ حَدِيث جَابر وَأنس وَأم معبد، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَقيل: إِن البُخَارِيّ لَا يخرج لأَبَان إلَاّ اسْتِشْهَادًا. وَأجِيب: بِأَنَّهُ ذكر هُنَا إِسْنَاده وَلم يسق مَتنه، لِأَن غَرَضه بَيَان أَنه صرح بِالتَّحْدِيثِ عَن قَتَادَة عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
٢ - (بابُ مَا يُحْذَرُ مِنْ عَوَاقِبِ الاشْتِغَالِ بآلَةِ الزَّرْعِ أوْ مُجَاوزَةِ الحَدِّ الَّذِي أُمِرَ بِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يحذر ... إِلَى آخِره، وَهَذِه التَّرْجَمَة بِعَينهَا رِوَايَة الْأصيلِيّ وكريمة. قَوْله: (أَو مُجَاوزَة الْحَد) ، أَي: فِي بَيَان مُجَاوزَة الْحَد الَّذِي أَمر بِهِ، وَفِي رِوَايَة ابْن شبويه: أَو يُجَاوز الْحَد، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ وَأبي ذَر: أَو جَاوز الْحَد، وَالْمرَاد بِالْحَدِّ الَّذِي شرع سَوَاء كَانَ وَاجِبا أَو سنة أَو ندبا.
١٢٣٢ - حدَّثنا عبدُ الله بنُ يوسُفَ قَالَ حدَّثنا عبدُ الله بنُ سالِمٍ الحِمْصِيِّ قَالَ حدَّثنا محَمَّدُابنُ زِيادٍ الألْهانِيُّ عنْ أبِي امَامَةَ الباهِليِّ قَالَ ورَأى سِكةً وشَيْئا مِنْ آلَةِ الحَرْثِ فَقَالَ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقولُ لَا يَدْخُلُ هَذا بَيْتَ قَوْمٍ إلَاّ أُدْخِلَهُ الذُّلُّ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لَا يدْخل هَذَا بَيت قوم إلَاّ أدخلهُ الذل) ، فَإِذا كَانَ كَذَلِك يَنْبَغِي الحذر من عواقب الِاشْتِغَال بِهِ، لِأَن كل مَا كَانَ عاقبته ذلاً يحذر عَنهُ، وَلما ذكر فضل الزَّرْع وَالْغَرْس فِي الْبَاب السَّابِق أَرَادَ الْجمع بَينه وَبَين حَدِيث هَذَا الْبَاب، لِأَن بَينهمَا مُنَافَاة بِحَسب الظَّاهِر. وَأَشَارَ إِلَى كَيْفيَّة الْجمع بشيئين أَحدهمَا: هُوَ قَوْله: مَا يحذر من عواقب الِاشْتِغَال بِآلَة الزَّرْع، وَذَلِكَ إِذا اشْتغل بِهِ فضيع بِسَبَبِهِ مَا أَمر بِهِ. وَالْآخر: هُوَ قَوْله: أَو مُجَاوزَة الْحَد، وَذَلِكَ فِيمَا إِذا لم يضيع، وَلكنه جَاوز الْحَد فِيهِ. وَقَالَ الدَّاودِيّ: هَذَا لمن يقرب من الْعَدو فَإِنَّهُ إِذا اشْتغل بالحرث لَا يشْتَغل بالفروسية ويتأسد عَلَيْهِ الْعَدو، وَأما غَيرهم فالحرث
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute