فِي ذَلِك لِأَنَّهُ رَآهُ على فعول، فتوهمه مِمَّا جَاءَ على الْمُبَالغَة، وَلَا يكون ذَلِك إلَاّ لتكرار الْفِعْل فَهُوَ ضروب وَشبهه، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا هُوَ اسْم لغير تَكْثِير الْفِعْل بِمَنْزِلَة: عَمُود وعنود. وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: وفصحاء الْعَرَب أهل الْحجاز وَمن والاهم يَقُولُونَ: أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، وَجَمَاعَة من الْعَرَب يبدلون من الْألف عينا فَيَقُولُونَ: أشهد عَن. قَوْله: (حَيّ على الصَّلَاة) . قَالَ الْفراء مَعْنَاهُ: هَلُمَّ، وَفتحت الْيَاء من حَيّ لسكون الْيَاء الَّتِي قبلهَا. وَقَالَ ابْن الانباري: فِيهِ سِتّ لُغَات، حَيّ هلا، بِالتَّنْوِينِ، وَفتح اللَّام بِغَيْر تَنْوِين، وتسكين الْهَاء، وَفتح الَّلام، وَحي هلن، لَا وَحي هلين، قَالَه الزجاجي.
الْوَجْه الْخَامِس: بالنُّون هُوَ الأول، بِعَيْنِه لِأَن التَّنْوِين وَالنُّون سَوَاء، وَمعنى الْفَلاح الْفَوْز، يُقَال: أَفْلح الرجل إِذا فَازَ.
(بابٌ الأَذان مَثْنَى مَثْنَى)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ الْأَذَان مثنى مثنى، ومثنى هَكَذَا مكررا رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: مثنى مُفردا، ومثنى مثنى، معدول من اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، وَالْعدْل على قسمَيْنِ: عدل تحقيقي وَهَذَا مِنْهُ، وَعدل تقديري كعمرو وَزفر، وَقد عرف فِي مَوْضِعه، وَفَائِدَة التّكْرَار للتوكيد، إِن كَانَ التّكْرَار يفهم من صِيغَة الْمثنى لِأَنَّهَا معدولة عَن: اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، كَمَا ذَكرْنَاهُ. وَيُقَال الأول لإِفَادَة التَّثْنِيَة لكل أَلْفَاظ الْأَذَان، وَالثَّانِي لكل أَفْرَاد الْأَذَان، أَي: الأول: لبَيَان تَثْنِيَة الْأَجْزَاء، وَالثَّانِي: لبَيَان تَثْنِيَة الجزئيات.
٦٠٤ - حدَّثنا مَحْمُودُ بنُ غَيْلَانَ قالَ حدَّثَنا عَبْدُ الرَّزَّاق قَالَ أخبرنَا ابنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبرنِي نافِعٌ أنَّ ابنَ عُمَرَ كانَ يَقُولُ كانَ المُسْلِمُونَ حَينَ قَدِمُوا المَدِينَةَ يَجْتَمِعُونَ فَيَتَحَيَّنُونَ الصَّلاةَ لَيْسَ يُنَادِي لَهَا فَتَكَلَّمُوا يَوْما فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ اتَّخَذُوا ناقُوسا مِثْلَ ناقُوسِ النَّصَارَى وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ بُوقا مِثْلَ قَرْنِ اليَهُودِ فَقَالَ عُمَرُ أوَ لَا تَبْعَثُونَ رَجُلاً مِنْكُمْ يُنَادِي بِالصَّلَاةِ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا بِلَالُ قُمْ فنَادِ بِالصَّلَاةِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله) (يَا بِلَال قُم فَنَادِ بِالصَّلَاةِ) . . فَإِن قلت: كَيفَ يُطَابق التَّرْجَمَة والترجمة فِي بَدْء الْأَذَان والْحَدِيث يدل على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِلَالًا بالنداء بِالصَّلَاةِ، والنداء لَا يفهم مِنْهُ الْأَذَان الْمَعْهُود بالكلمات الْمَخْصُوصَة؟ قلت: المُرَاد بالنداء الْأَذَان الْمَعْهُود، وَيدل على أَن الْإِسْمَاعِيلِيّ أخرج هَذَا الحَدِيث، وَلَفظه: (فَأذن بِالصَّلَاةِ) . وَكَذَا قَالَ أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ: إِن المُرَاد الْأَذَان الْمَشْرُوع. فَإِن قلت: قَالَ القَاضِي عِيَاض: المُرَاد الْإِعْلَام الْمَحْض بِحُضُور وَقتهَا، لَا خُصُوص الْأَذَان الْمَشْرُوع. قلت: يحمل أَنه اسْتندَ فِي ذَلِك على ظَاهر اللَّفْظ، وَلَئِن سلمنَا مَا قَالَه فالمطابقة بَينهمَا مَوْجُودَة بِاعْتِبَار أَن أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِبلَال بالنداء بِالصَّلَاةِ كَانَ بَدْء الْأَمر فِي هَذَا الْبَاب، فَإِنَّهُ لم يسْبق أَمر بذلك قبله، بل إِنَّمَا قَالَ ذَلِك صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد تحينهم للصَّلَاة وتشاورهم فِيمَا بَينهم مَاذَا يَفْعَلُونَ فِي الْإِعْلَام بِالصَّلَاةِ.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة قد تكَرر ذكرهم. و: غيلَان، بالغين الْمُعْجَمَة، وَابْن جريج هُوَ: عبد الْملك.
وَمن لطائفه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، والإخبار فِي موضِعين: أَحدهمَا: بِصِيغَة الْجمع، وَالْآخر: بِصِيغَة الْإِفْرَاد من الْمَاضِي. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع.
بَيَان من أخرحه غَيره: وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن رَافع عَن عبد الرَّزَّاق وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وَعَن هَارُون بن عبد الله. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي النَّضر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل وَإِبْرَاهِيم بن الْحسن.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَن ابْن عمر كَانَ يَقُول) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن عبد الله بن عمر: أَنه قَالَ: قَوْله: (حِين قدمُوا الْمَدِينَة) ، أَي: من مَكَّة مُهَاجِرين. قَوْله: (فيتحينون) ، بِالْحَاء الْمُهْملَة، أَي: يقدرُونَ حينها ليأتوا إِلَيْهَا، وَهُوَ من التحين من بَاب التفعل الَّذِي وضع للتكلف غَالِبا، والتحين من الْحِين وَهُوَ الْوَقْت والزمن. قَوْله: (لَيْسَ يُنادَى لَهَا) ، أَي: للصَّلَاة، وَهُوَ على بِنَاء الْمَفْعُول. وَقَالَ ابْن مَالك: هَذَا شَاهد على جَوَاز اسْتِعْمَال: لَيْسَ، حرفا لَا اسْم لَهَا وَلَا خبر لَهَا، أَشَارَ إِلَيْهَا سِيبَوَيْهٍ، وَيحْتَمل أَن يكون اسْمهَا ضمير الشَّأْن، وَالْجُمْلَة بعْدهَا خَبرا. قَوْله: (اتَّخذُوا) على صُورَة الْأَمر. قَوْله: (بوقا) أَي: قَالَ بَعضهم: اتَّخذُوا بوقا، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَبعد الْوَاو الساكنة قَاف، وَهُوَ الَّذِي ينْفخ فِيهِ، وَوَقع فِي بعض النّسخ: (بل قرنا) ، وَهِي رِوَايَة مُسلم وَالنَّسَائِيّ، والبوق والقرن معروفان، وَهُوَ من شعار الْيَهُود، وَيُسمى أَيْضا: الشبور، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَضم الْبَاء الْمُوَحدَة المثقلة. قَوْله: (فَقَالَ عمر أَوَلَا تبعثون؟) الْهمزَة للاستفهام، وَالْوَاو للْعَطْف على مُقَدّر، أَي: أتقولون بموافقتهم وَلَا تبعثون؟ وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: الْهمزَة إِنْكَار للجملة الأولى، أَي: الْمقدرَة، وَتَقْرِير للجملة الثَّانِيَة. قَوْله: (رجلا مِنْكُم) هَكَذَا رِوَايَة الْكشميهني، وَلَيْسَ لَفْظَة: مِنْكُم، فِي رِوَايَة غَيره. قَوْله: (يُنَادي) جملَة فعلية مضارعية فِي مَحل النصب على الْحَال من الْأَحْوَال الْمقدرَة. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: يحْتَمل أَن يكون عبد الله بن زيد لما أخبر برؤياه، وَصدقه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَادر عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقَالَ: (أَولا تبعثون رجلا يُنَادي؟) أَي: يُؤذن بالرؤيا الْمَذْكُورَة. (فَقَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: قُم يَا بِلَال) . فعلى هَذَا: فالفاء، فِي قَوْله: فَقَالَ عمر. فَاء الفصيحة، وَالتَّقْدِير: فافترقوا، فَرَأى عبد الله بن زيد، فجَاء إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقص عَلَيْهِ فَصدقهُ، فَقَالَ عمر: أَولا تبعثوني؟ انْتهى. قلت: هَذَا يُصَرح أَن معنى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: (قُم يَا بِلَال فَنَادِ بِالصَّلَاةِ) ، أَي: فَأذن بالرؤيا الْمَذْكُورَة، وَقَالَ بَعضهم: وَسِيَاق حَدِيث عبد الله بن زيد يُخَالف ذَلِك. فَإِن فِيهِ: لما قصّ رُؤْيَاهُ على النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ لَهُ: ألقها على بِلَال فليؤذن بهَا، قَالَ: فَسمع عمر الصَّوْت، فَخرج فَأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: لقد رَأَيْت مثل الَّذِي رأى، فَدلَّ على أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لم يكن حَاضرا لما قصّ عبد الله بن زيد رُؤْيَاهُ، وَالظَّاهِر أَن إِشَارَة عمر بإرسال رجل يُنَادي بِالصَّلَاةِ كَانَت عقيب الْمُشَاورَة فِيمَا يَفْعَلُونَهُ، وَأَن رُؤْيا عبد الله بن زيد كَانَت بعد ذَلِك. قلت: أما حَدِيث عبد الله بن زيد فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد: حَدثنَا مُحَمَّد بن مَنْصُور الطوسي حَدثنَا يَعْقُوب حَدثنَا أبي عَن مُحَمَّد ابْن اسحاق حَدثنِي مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن الْحَارِث التَّيْمِيّ عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربه، قَالَ: حَدثنَا أبي عبد الله ابْن زيد قَالَ: (لما أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالناقوس يعْمل ليضْرب بِهِ للنَّاس لجمع الصَّلَاة، طَاف بِي وَأَنا نَائِم رجل يحمل ناقوسا فِي يَده، فَقلت: يَا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قَالَ: وَمَا تصنع بِهِ؟ فَقلت: نَدْعُو بِهِ إِلَى الصَّلَاة. فَقَالَ: أَلَا أدلك على مَا هُوَ خير من ذَلِك؟ قَالَ: فَقلت لَهُ: بلَى. فَقَالَ: تَقول: الله أكبر، الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، حَيّ على الصَّلَاة حَيّ على الصَّلَاة، حَيّ على الْفَلاح حَيّ على الْفَلاح، الله أكبر الله أكبر، لَا إِلَه إِلَّا الله. ثمَّ اسْتَأْخَرَ غير بعيد، ثمَّ قَالَ: ثمَّ تَقول إِذا أَقمت إِلَى الصَّلَاة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، حى على الصَّلَاة، حَيّ على الْفَلاح، قد قَامَت الصَّلَاة قد قَامَت الصَّلَاة، الله أكبر الله أكبر، لَا إِلَه إِلَّا الله، فَلَمَّا أَصبَحت أتيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَخْبَرته بِمَا رَأَيْته، فَقَالَ: إِنَّهَا لرؤيا حق إِن شَاءَ الله، فَقُمْ مَعَ بِلَال فألق عَلَيْهِ مَا رَأَيْت فليؤذن بِهِ، فَإِنَّهُ أندى صَوتا مِنْك، فَقُمْت مَعَ بِلَال فَجعلت ألقيه عَلَيْهِ وَيُؤذن بِهِ، قَالَ: فَسمع ذَلِك عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهُوَ فِي بَيته، فَخرج يجر رِدَاءَهُ يَقُول: وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ يَا رَسُول الله، لقد رَأَيْت مثل مَا رأى، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَللَّه الْحَمد) ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ أَيْضا. فَلم يذكر فِيهِ كَلِمَات الْأَذَان وَلَا الْإِقَامَة. وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه أَيْضا فَلم يذكر فِيهِ لفظ الْإِقَامَة، وَزَاد فِيهِ شعرًا، فَقَالَ عبد الله بن زيد فِي ذَلِك
(أَحْمد الله ذَا الْجلَال وَذَا الإ ... كرام حمدا على الْأَذَان كثيرا)
(إِذا أَتَانِي بِهِ البشير من الله ... فألم بِهِ لدي بشيرا)
(فِي ليالٍ وافي بِهن ثلا ... ث، كلما جَاءَ زادني توقيرا)
وَأخرج ابْن حبَان أَيْضا هَذَا الحَدِيث فِي (صَحِيحه) . وَرَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) وَقَالَ أَبُو عمر ابْن عبد الْبر: روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قصَّة عبد الله بن زيد فِي بَدْء الْأَذَان جمَاعَة من الصَّحَابَة بِأَلْفَاظ مُخْتَلفَة وَمَعَان مُتَقَارِبَة، وَكلهَا تتفق على أمره عِنْد ذَلِك. والأسانيد فِي ذَلِك من وُجُوه صِحَاح، وَفِي مَوضِع آخر: من وُجُوه حسان، وَنحن نذْكر أحْسنهَا، فَذكر مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: حَدثنَا عباد بن مُوسَى الْخُتلِي وَحدثنَا زِيَاد بن أَيُّوب، وَحَدِيث عباد أتم، قَالَا: أخبرنَا هشيم عَن أبي بشر، قَالَ زِيَاد: أخبرنَا أَبُو بشر عَن أبي عُمَيْر ابْن أنس عَن عمومة لَهُ من الْأَنْصَار قَالَ: (اهتم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للصَّلَاة كَيفَ يجمع النَّاس لَهَا، فَقيل لَهُ: أنصب راية عِنْد حُضُور الصَّلَاة فَإِذا رأوها آذن بَعضهم بَعْضًا، فَلم يُعجبهُ ذَلِك، قَالَ: فَذكر لَهُ القنع، يَعْنِي: الشبور، وَقَالَ زِيَاد: شبور الْيَهُود. فَلم يُعجبهُ ذَلِك، وَقَالَ: هُوَ من أَمر الْيَهُود، قَالَ فَذكر لَهُ الناقوس، فَقَالَ: هُوَ من أَمر النَّصَارَى، فَانْصَرف عبد الله بن زيد وَهُوَ مهتم لَهُم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فأري الْأَذَان فِي مَنَامه، قَالَ: فغدا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأخْبرهُ، فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِنِّي لبين نَائِم ويقظان إِذْ أَتَانِي آتٍ فَأرَانِي الْأَذَان، قَالَ: وَكَانَ عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قد رَآهُ قبل ذَلِك فكتمه عشْرين يَوْمًا، قَالَ: ثمَّ أخبر بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: مَا مَنعك أَن تخبرنا؟ فَقَالَ: سبقني عبد الله بن زيد فَاسْتَحْيَيْت، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا بِلَال قُم فَانْظُر مَا يَأْمُرك بِهِ عبد الله ابْن زيد فافعله، فَأذن بِلَال) . فَأَبُو دَاوُد ترْجم لهَذَا الحَدِيث بقوله: بَاب بَدْء الْأَذَان، فَهَذَا الَّذِي هُوَ أحسن أَحَادِيث هَذَا الْبَاب، كَمَا ذكره أَبُو عمر يُقَوي كَلَام الْقُرْطُبِيّ الَّذِي ذَكرْنَاهُ آنِفا، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يُخَالف حَدِيث عبد الله بن زيد بِهَذِهِ الطَّرِيقَة، لِأَنَّهُ لم يذكر فِيهَا أَن عمر سمع الصَّوْت فَخرج فَأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَدلَّ بِحَسب الظَّاهِر أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ حَاضرا فَهُوَ يرد كَلَام بَعضهم الَّذِي ذَكرْنَاهُ عَنهُ، وَهُوَ قَوْله: فَدلَّ على أَن عمر لم يكن حَاضرا لما قصّ عبد الله بن زيد رُؤْيَاهُ إِلَى آخر مَا ذكره. فَافْهَم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن قَوْله: (قُم يَا بِلَال فَنَادِ أَو فَأذن) ، يدل على مَشْرُوعِيَّة الْأَذَان قَائِما، وَأَنه لَا يجوز قَاعِدا، وَهُوَ مَذْهَب الْعلمَاء كَافَّة إِلَّا أَبَا ثَوْر، فَإِنَّهُ جوزه، وَوَافَقَهُ أَبُو الْفرج الْمَالِكِي، رَحمَه الله تَعَالَى، واستضعفه النَّوَوِيّ لوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: المُرَاد بالنداء هَهُنَا الْإِعْلَام. الثَّانِي: المُرَاد: قُم واذهب إِلَى مَوضِع بارز فَنَادِ فِيهِ بِالصَّلَاةِ، وَلَيْسَ فِيهِ تعرض للْقِيَام فِي حَال الْأَذَان. قَالَ النَّوَوِيّ: ومذهبنا الْمَشْهُور أَنه سنة، فَلَو أذن قَاعِدا بِغَيْر عذر صَحَّ أَذَانه، لَكِن فَاتَتْهُ الْفَضِيلَة وَلم يثبت فِي اشْتِرَاط الْقيام شَيْء. وَفِي كتاب أبي الشَّيْخ، بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ عَن وَائِل بن حجر، قَالَ: حق وَسنة مسنونة ألَاّ يُؤذن إِلَّا وَهُوَ طَاهِر، وَلَا يُؤذن إلَاّ وَهُوَ قَائِم. وَفِي (الْمُحِيط) : إِن أذن لنَفسِهِ فَلَا بَأْس أَن يُؤذن قَاعِدا من غير عذر، مُرَاعَاة لسنة الْأَذَان وَعدم الْحَاجة إِلَى إِعْلَام النَّاس، وَإِن أذن قَاعِدا لغير عذر صَحَّ، وفاتته الْفَضِيلَة، وَكَذَا لَو أذن قَاعِدا مَعَ قدرته على الْقيام صَحَّ أَذَانه، وَفِيه: دَلِيل على مَشْرُوعِيَّة طلب الْأَحْكَام من الْمعَانِي المستنبطة دون الِاقْتِصَار على الظَّوَاهِر. وَفِيه: منقبة ظَاهِرَة لعمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَفِيه: التشاور فِي الْأُمُور المهمة، وَأَنه يَنْبَغِي للمتشاورين أَن يَقُول كل مِنْهُم مَا عِنْده، ثمَّ صَاحب الْأَمر يفعل مَا فِيهِ الْمصلحَة. وَفِيه: التحين لأوقات الصَّلَاة.
فَوَائِد: الأولى: الاستشكال فِي إِثْبَات الْأَذَان برؤيا عبد الله بن زيد، لِأَن رُؤْيا غير الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، لَا يَبْنِي عَلَيْهَا حكم شَرْعِي، وَالْجَوَاب: مُقَارنَة الْوَحْي لذَلِك، وَفِي مُسْند الْحَارِث بن أبي أُسَامَة: (أول من أذن بِالصَّلَاةِ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي السَّمَاء الدُّنْيَا، فَسَمعهُ عمر وبلال، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فَسبق عمر بِلَالًا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأخْبرهُ بهَا، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِبلَال: سَبَقَك بهَا عمر) . وَقَالَ الدَّاودِيّ: (رُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَاهُ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِالْأَذَانِ قبل أَن يُخبرهُ عبد الله بن زيد وَعمر بِثمَانِيَة أَيَّام) . ذكره ابْن إِسْحَاق، قَالَ: وَهُوَ أحسن مَا جَاءَ فِي الْأَذَان، وَقد ذكرنَا فِي أول الْبَاب أَن الزَّمَخْشَرِيّ نقل عَن بَعضهم أَن الْأَذَان بِالْوَحْي لَا بالمنام وَحده. وَفِي كتاب أبي الشَّيْخ: من حَدِيث عبد الْعَزِيز بن عمرَان عَن أبي المؤمل عَن أبي الرهين عَن عبد الله بن الزبير قَالَ: (أَخذ الْأَذَان من أَذَان إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، {وَأذن فِي النَّاس بِالْحَجِّ يأتوك رجَالًا ... } (الْحَج: ٢٧) . الْآيَة، قَالَ: فَأذن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . وَقَالَ السُّهيْلي: الْحِكْمَة فِي تَخْصِيص الْأَذَان برؤيا رجل. وَلم يكن بِوَحْي، فَلِأَن سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أريه لَيْلَة الْإِسْرَاء فَوق سبع سموات، وَهُوَ أقوى من الْوَحْي. فَلَمَّا تَأَخّر فرض الْأَذَان إِلَى الْمَدِينَة، وَأَرَادَ إِعْلَام النَّاس بِوَقْت الصَّلَاة، فَلبث الْوَحْي حَتَّى رأى عبد الله الرُّؤْيَا، فَوَافَقت مَا كَانَ رَآهُ فِي السَّمَاء، قَالَ: إِنَّهَا لرؤيا حق إِن شَاءَ الله تَعَالَى) . وَعلم حِينَئِذٍ أَن مُرَاد الله بِمَا أرَاهُ فِي السَّمَاء أَن يكون سنة فِي الأَرْض، وَقَوي ذَلِك مُوَافقَة رُؤْيا عمر، مَعَ أَن السكينَة تنطق على لِسَان عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، واقتضت الْحِكْمَة الإلهية أَن يكون الْأَذَان على غير لِسَان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لما فِيهِ من التنويه بِعَبْدِهِ، وَالرَّفْع لذكره، فَلِأَن يكون ذَلِك على لِسَان غَيره أنوه وأفخر لشأنه، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {ورفعنا لَك ذكرك} (الشَّرْح: ٢) . وروى عبد الرَّزَّاق وَأَبُو دَاوُد فِي (الْمَرَاسِيل) : من طَرِيق عبيد ابْن عُمَيْر اللَّيْثِيّ، أحد كبار التَّابِعين: (أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لما رأى الْأَذَان جَاءَ ليخبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوجدَ الْوَحْي قد ورد بذلك، فَمَا راعه إلَاّ أَذَان بِلَال، فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: سَبَقَك بذلك الْوَحْي) .
الثَّانِيَة: هَل أذن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قطّ بِنَفسِهِ؟ فروى التِّرْمِذِيّ من طَرِيق يَدُور على عمر بن الرماح يرفعهُ إِلَى أبي هُرَيْرَة: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أذن فِي سفر وَصلى بِأَصْحَابِهِ، وهم على رواحلهم، السَّمَاء من فَوْقهم، والبلة من أسفلهم) . هَكَذَا قَالَه السُّهيْلي. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : هَذَا الحَدِيث لم يُخرجهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، كَمَا ذكره السُّهيْلي، وَإِنَّمَا هُوَ عِنْده من حَدِيث عمر بن الرماح: عَن كثير بن زِيَاد عَن عَمْرو بن عُثْمَان بن يعلى بن مرّة الثَّقَفِيّ عَن أَبِيه عَن جده، وَقَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيث غَرِيب، تفرد بِهِ عمر بن الرماح الْبَلْخِي، لَا يعرف إلَاّ من حَدِيثه، وَمن هَذِه الطَّرِيقَة أخرجه الْبَيْهَقِيّ وَضَعفه، وَكَذَا ابْن الْعَرَبِيّ، وَسكت عَنهُ الإشبيلي، وَعَابَ ذَلِك عَلَيْهِ ابْن الْقطَّان بِأَن عمرا وأباه عُثْمَان لَا يعرف حَالهمَا. وَلما ذكره النَّوَوِيّ صَححهُ؛ وَمن حَدِيث يعلى أخرجه أَحْمد فِي (مُسْنده) ، وَأحمد بن منيع وَابْن أُميَّة وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) و (الْأَوْسَط) والعدني، وَفِي (التَّارِيخ) للأثرم، و (تَارِيخ الْخَطِيب) وَغَيرهم، وَقَالَ الذَّهَبِيّ: يعلى بن مرّة بن وهب الثَّقَفِيّ بَايع تَحت الشَّجَرَة وَله دَار بِالْبَصْرَةِ.
الثَّالِثَة: الترجيع فِي الْأَذَان، وَهُوَ أَن يرجع وَيرْفَع صَوته بِالشَّهَادَتَيْنِ بَعْدَمَا خفض بهما، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَمَالك، إِلَّا إِنَّه لَا يُؤْتى بِالتَّكْبِيرِ فِي أَوله. إلَاّ مرَّتَيْنِ. وَقَالَ أَحْمد: إِن رجَّع فَلَا بَأْس بِهِ، وَإِن لم يرجع فَلَا بَأْس بِهِ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق من أَصْحَاب الشَّافِعِي: إِن ترك الترجيع يعْتد بِهِ، وَحكى عَن بعض أَصْحَابه أَنه لَا يعْتد بِهِ كَمَا لَو ترك سَائِر كَلِمَاته، كَذَا فِي (الْحِلْية) . وَفِي (شرح الْوَجِيز) : وَالأَصَح أَنه إنْ ترك الترجيع لم يضرّهُ، وَحجَّة الشَّافِعِي حَدِيث أبي مَحْذُورَة: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علمه الْأَذَان: الله أكبر الله أكبر، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، ثمَّ يعود فَيَقُول: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله حَيّ على الصَّلَاة حَيّ على الصَّلَاة، حَيّ على الْفَلاح حَيّ على الْفَلاح، الله أكبر الله أكبر لَا إِلَه إِلَّا الله) . رَوَاهُ الْجَمَاعَة إلَاّ البُخَارِيّ من حَدِيث عبد الله بن محيريز عَن أبي مَحْذُورَة، وَحجَّة أَصْحَابنَا حَدِيث عبد الله بن زيد من غير تَرْجِيع فِيهِ، وَكَأن حَدِيث أبي مَحْذُورَة لأجل التَّعْلِيم فكرره، فَظن أَبُو مَحْذُورَة أَنه تَرْجِيع، وَأَنه فِي أصل الْأَذَان، وروى الطَّبَرَانِيّ فِي (مُعْجَمه الْأَوْسَط) عَن أبي مَحْذُورَة أَنه قَالَ: (ألْقى عَليّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأَذَان حرفا حرفا: الله أكبر الله أكبر) إِلَى آخِره، لم يذكر فِيهِ ترجيعا. وأذان بِلَال بِحَضْرَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سفرا وحضرا، وَهُوَ مُؤذن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بإطباق أهل الْإِسْلَام إِلَى أَن توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ومؤذن أبي بكر الصّديق رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ إِلَى أَن توفّي من غير تَرْجِيع.
الرَّابِعَة: أَن التَّكْبِير فِي أول الْأَذَان مربع، على مَا فِي حَدِيث أبي مَحْذُورَة، رَوَاهُ مُسلم وَأَبُو عوَانَة وَالْحَاكِم، وَهُوَ الْمَحْفُوظ عَن الشَّافِعِي من حَدِيث ابْن زيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقَالَ أَبُو عمر: ذهب مَالك وَأَصْحَابه إِلَى أَن التَّكْبِير فِي أول الْأَذَان مرَّتَيْنِ، قَالَ: وَقد رُوِيَ ذَلِك من وُجُوه صِحَاح فِي أَذَان أبي مَحْذُورَة، وأذان ابْن زيد، وَالْعَمَل عِنْدهم بِالْمَدِينَةِ على ذَلِك فِي آل سعد الْقرظ إِلَى زمانهم، قُلْنَا: الَّذِي ذَهَبْنَا إِلَيْهِ هُوَ أَذَان الْملك النَّازِل من السَّمَاء.
الْخَامِسَة: فِي أَذَان الْفجْر: الصَّلَاة خير من النّوم، مرَّتَيْنِ بعد الْفَلاح لما روى الطَّبَرَانِيّ فِي (مُعْجَمه الْكَبِير) بِإِسْنَادِهِ عَن بِلَال أَنه أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُؤذنهُ بالصبح، فَوَجَدَهُ رَاقِدًا، فَقَالَ: الصَّلَاة خير من النّوم، مرَّتَيْنِ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا أحسن هَذَا يَا بِلَال إجعله فِي أذانك) . وَأخرجه الْحَافِظ أَبُو الشَّيْخ فِي (كتاب الْأَذَان) ، لَهُ عَن ابْن عمر قَالَ: (جَاءَ بِلَال إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُؤذنهُ بِالصَّلَاةِ، فَوَجَدَهُ قد أغفى، فَقَالَ: الصَّلَاة خير من النّوم، فَقَالَ لَهُ: إجعله فِي أذانك إِذا أَذِنت للصبح، فَجعل بِلَال يَقُولهَا إِذا أذن للصبح) . وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث سعيد بن الْمسيب: (عَن بِلَال أَنه أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُؤذنهُ بِصَلَاة الْفجْر، فَقيل: هُوَ نَائِم، فَقَالَ: الصَّلَاة خير من النّوم، الصَّلَاة خير من النّوم. فأقرت فِي تأذين الْفجْر) ، وَخص الْفجْر بِهِ لِأَنَّهُ وَقت نوم وغفلة.
السَّادِسَة: فِي مَعَاني كَلِمَات الْأَذَان: ذكر ثَعْلَب أَن أهل الْعَرَبيَّة اخْتلفُوا فِي معنى: أكبر، فَقَالَ أهل اللُّغَة: مَعْنَاهُ كَبِير، وَاحْتَجُّوا بقوله تَعَالَى: {وَهُوَ أَهْون عَلَيْهِ} (الرّوم: ٢٧) . مَعْنَاهُ وَهُوَ هَين عَلَيْهِ، وكما فِي قَول الشَّاعِر:
(تمنى رجال أَن أَمُوت وَإِن أمت [/ عفتلك سَبِيل لست فِيهَا بأوحد)
أَي: لست فِيهَا بِوَاحِد. وَقَالَ الْكسَائي وَالْفراء وَهِشَام: مَعْنَاهُ أكبر من كل شَيْء، فحذفت: من، كَمَا فِي قَول الشَّاعِر:
(إِذا مَا ستور الْبَيْت أرخيت لم يكن ... سراج لنا إلَاّ ووجهك أنور)
أَي: أنور من غَيره، وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: وَأَجَازَ أَبُو الْعَبَّاس: ألله كبر، وَاحْتج بِأَن الْأَذَان سمع وَقفا لَا إِعْرَاب فِيهِ. قَوْله: (أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله) مَعْنَاهُ: أعلم وَأبين، وَمن ذَلِك: شهد الشَّاهِد عِنْد الْحَاكِم، مَعْنَاهُ: قد بَين لَهُ وأعلمه الْخَبَر الَّذِي عِنْده، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: مَعْنَاهُ أَقْْضِي، كَمَا فِي: {شهد الله} (آل عمرَان: ١٨) . مَعْنَاهُ: قضى الله. وَقَالَ الزجاجي: لَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا حَقِيقَة الشَّهَادَة هُوَ تَيَقّن الشَّيْء وتحققه من شَهَادَة الشَّيْء أَي: حُضُوره. قَوْله: (رَسُول الله) قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: الرَّسُول مَعْنَاهُ فِي اللُّغَة: الَّذِي تتَابع الْأَخْبَار من الَّذِي بَعثه من قَول الْعَرَب، قد جَاءَت الْإِبِل رسلًا أَي: جَاءَت متتابعة. وَيُقَال فِي تثنيته: رسولان، وَفِي جمعه: رسل، وَمن الْعَرَب من يوحده فِي مَوضِع التَّثْنِيَة وَالْجمع، فَيَقُول: الرّجلَانِ رَسُولك، وَالرِّجَال رَسُولك، قَالَ الله تَعَالَى: إِنَّا رَسُولا رَبك} (طه: ٤٧) . وَفِي مَوضِع آخر: {أَنا رَسُول رب الْعَالمين} (مَرْيَم: ١٩٠) ، فَفِي الأول خرج الْكَلَام على ظَاهره لِأَنَّهُ إِخْبَار عَن مُوسَى وَهَارُون، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَفِي الثَّانِي بِمَعْنى الرسَالَة، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّا رِسَالَة رب الْعَالمين، قَالَه يُونُس، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق الزّجاج: لَيْسَ مَا ذكره ابْن الْأَنْبَارِي فِي اشتقاق الرَّسُول صَحِيحا، وَإِنَّمَا الرَّسُول الْمُرْسل المبعد من أرْسلت ٩ أبعدت وَبعثت، وَإِنَّمَا توهم فِي ذَلِك لِأَنَّهُ رَآهُ على فعول، فتوهمه مِمَّا جَاءَ على الْمُبَالغَة، وَلَا يكون ذَلِك إلَاّ لتكرار الْفِعْل فَهُوَ ضروب وَشبهه، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا هُوَ اسْم لغير تَكْثِير الْفِعْل بِمَنْزِلَة: عَمُود وعنود. وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: وفصحاء الْعَرَب أهل الْحجاز وَمن والاهم يَقُولُونَ: أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، وَجَمَاعَة من الْعَرَب يبدلون من الْألف عينا فَيَقُولُونَ: أشهد عَن. قَوْله: (حَيّ على الصَّلَاة) . قَالَ الْفراء مَعْنَاهُ: هَلُمَّ، وَفتحت الْيَاء من حَيّ لسكون الْيَاء الَّتِي قبلهَا. وَقَالَ ابْن الانباري: فِيهِ سِتّ لُغَات، حَيّ هلا، بِالتَّنْوِينِ، وَفتح اللَّام بِغَيْر تَنْوِين، وتسكين الْهَاء، وَفتح الَّلام، وَحي هلن، لَا وَحي هلين، قَالَه الزجاجي.
الْوَجْه الْخَامِس: بالنُّون هُوَ الأول، بِعَيْنِه لِأَن التَّنْوِين وَالنُّون سَوَاء، وَمعنى الْفَلاح الْفَوْز، يُقَال: أَفْلح الرجل إِذا فَازَ.
(بابٌ الأَذان مَثْنَى مَثْنَى)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ الْأَذَان مثنى مثنى، ومثنى هَكَذَا مكررا رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: مثنى مُفردا، ومثنى مثنى، معدول من اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، وَالْعدْل على قسمَيْنِ: عدل تحقيقي وَهَذَا مِنْهُ، وَعدل تقديري كعمرو وَزفر، وَقد عرف فِي مَوْضِعه، وَفَائِدَة التّكْرَار للتوكيد، إِن كَانَ التّكْرَار يفهم من صِيغَة الْمثنى لِأَنَّهَا معدولة عَن: اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، كَمَا ذَكرْنَاهُ. وَيُقَال الأول لإِفَادَة التَّثْنِيَة لكل أَلْفَاظ الْأَذَان، وَالثَّانِي لكل أَفْرَاد الْأَذَان، أَي: الأول: لبَيَان تَثْنِيَة الْأَجْزَاء، وَالثَّانِي: لبَيَان تَثْنِيَة الجزئيات.
٦٠٦ - حدَّثنا مُحَمَّدٌ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الوَهَّابِ قَالَ أخبرنَا خالِدٌ الحَذَّاءْ عَنْ أبي قِلَابَةَ عَن أنَسِ بنِ مالِكٍ قَالَ لَما كَثرَ الناسُ قَالَ ذَكَرُوا أنْ يُعْلِمُوا وَقْتَ الصَّلَاةِ بِشَيْءٍ يَعْرِفُونَهُ فَذَكَرُوا أنْ يُورُوا نَارا أَو يَضْرِبُوا ناقُوسا فَأُمِرَ بِلَالٌ أنْ يَشْفَعَ الأَذَانَ وأنْ يُوتِرَ الإِقَامَةَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مُطَابقَة الحَدِيث الأول.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن سَلام، هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره: حَدثنِي مُحَمَّد غير مَنْسُوب، وَقَالَ أَبُو عَليّ الجياني: ذكر البُخَارِيّ فِي مَوَاضِع: حَدثنَا مُحَمَّد، غير مَنْسُوب: مِنْهَا فِي الصَّلَاة والجنائز والمناقب وَالطَّلَاق والتوحيد، وَفِي بَعْضهَا: مُحَمَّد بن سَلام مِنْهَا هَهُنَا على الِاخْتِلَاف الْمَذْكُور، وَقَالَ