النّوم فَقيل لَهُ: مَا فعل رَبك هُنَاكَ؟ فَقَالَ: سقيت مثل هَذِه، وَأَشَارَ إِلَى ظفر إبهامه. قَوْله: (بعتاقتي) أَي: بِسَبَب عتاقتي ثوبية، وعتاقة بِفَتْح الْعين، وَفِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق: بعتقي، وَقَالَ بَعضهم: وَهُوَ أوجه، وَالْوَجْه أَن يَقُول: بإعتاقي لِأَن المُرَاد التَّخَلُّص من الرّقّ. قلت: هَذَا الْقَائِل أَخذ مَا قَالَه من كَلَام الْكرْمَانِي، فَإِنَّهُ قَالَ: فَإِن قلت: مَعْنَاهُ التَّخَلُّص من الرّقية، فَالصَّحِيح أَن يُقَال: بإعتاقي. قلت: كل من النَّاقِل وَالْمَنْقُول مِنْهُ لم يحرر كَلَامه، فَإِن الْعتْق والعتاقة وَالْعتاق كلهَا مصَادر من عتق العَبْد، وَقَول النَّاقِل: وَهُوَ أوجه، غير موجه، لِأَن الْعتْق والعتاقة وَاحِد فِي الْمَعْنى، فَكيف يَقُول الْعتْق أوجه؟ ثمَّ قَوْله: وَالْأَوْجه أَن يَقُول: بإعتاقي لِأَن المُرَاد التَّخَلُّص من الرّقّ، كَلَام من لَيْسَ لَهُ وقُوف على كَلَام الْقَوْم، فَإِن صَاحب الْمغرب قَالَ: الْعتْق الْخُرُوج من المملوكية وَهُوَ التَّخَلُّص من الرّقية، وَقد يقوم الْعتْق مقَام الْإِعْتَاق الَّذِي هُوَ مصدر أعْتقهُ مَوْلَاهُ. وَفِي التَّوْضِيح: وَفِيه أَي: وَفِي هَذَا الحَدِيث من الْفِقْه أَن الْكَافِر قد يعْطى عوضا من أَعماله الَّتِي يكون مِنْهَا قربَة لأهل الْإِيمَان بِاللَّه، كَمَا فِي حق أبي طَالب. غير أَن التَّخْفِيف عَن أبي لَهب أقل من التَّخْفِيف عَن أبي طَالب، وَذَلِكَ لنصرة أبي طَالب لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وحياطته لَهُ وعداوة أبي لَهب لَهُ. وَقَالَ ابْن بطال: وَصَحَّ قَول من تَأَول فِي معنى الحَدِيث الَّذِي جَاءَ عَن الله تَعَالَى: إِن رَحمته سبقت غَضَبه، إِن رَحمته لاتنقطع عَن أهل النَّار المخلدين فِيهَا، إِذْ فِي قدرته أَن يخلق لَهُم عذَابا يكون عَذَاب النَّار لأَهْلهَا رَحْمَة وتخفيفا بِالْإِضَافَة إِلَى ذَلِك الْعَذَاب وَمذهب الْمُحَقِّقين أَن الْكَافِر لَا يُخَفف عَنهُ الْعَذَاب بِسَبَب حَسَنَاته فِي الدُّنْيَا، بل يُوسع عَلَيْهِ بهَا فِي دُنْيَاهُ. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: انْعَقَد الْإِجْمَاع على أَن الْكفَّار لَا تنفعهم أَعْمَالهم وَلَا يثابون عَلَيْهَا بنعيم وَلَا تَخْفيف عَذَاب، وَلَكِن بَعضهم أَشد عذَابا بِحَسب جرائمهم. وَقَالَ الْكرْمَانِي: لَا ينفع الْكَافِر الْعَمَل الصَّالح. إِذْ الرُّؤْيَا لَيست بِدَلِيل، وَعلي تَقْدِير التَّسْلِيم يحْتَمل أَن يكون الْعَمَل الصَّالح وَالْخَيْر الَّذِي يتَعَلَّق لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَخْصُوصًا، كَمَا أَن أَبَا طَالب أَيْضا ينْتَفع بتَخْفِيف الْعَذَاب. وَذكر السُّهيْلي أَن الْعَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: لما مَاتَ أَبُو لَهب رَأَيْته فِي مَنَامِي بعد حول فِي شَرّ حَال، فَقَالَ: مَا لقِيت بعدكم رَاحَة إلَاّ أَن الْعَذَاب يُخَفف عني كل يَوْم اثْنَيْنِ. قَالَ: وَذَلِكَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولد يَوْم الِاثْنَيْنِ وَكَانَت ثويبة بشرت أَبَا لَهب بمولده فَأعْتقهَا. وَيُقَال: إِن قَول عُرْوَة لما مَاتَ أَبُو لَهب: أريه بعض أَهله إِلَى آخِره خبر مُرْسل أرْسلهُ عُرْوَة وَلم يذكر من حَدثهُ بِهِ، وعَلى تَقْدِير أَن يكون مَوْصُولا فَالَّذِي فِي الْخَبَر رُؤْيا مَنَام فَلَا حجَّة فِيهِ، وَلَعَلَّ الَّذِي رَآهَا لم يكن إِذْ ذَاك أسلم بعد، فَلَا يحْتَج بِهِ. وَأجِيب ثَانِيًا: على تَقْدِير الْقبُول، يحْتَمل أَن يكون مَا يتَعَلَّق بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَخْصُوصًا من ذَلِك بِدَلِيل قصَّة أبي طَالب حَيْثُ خفف عَنهُ. فَنقل من الغمرات إِلَى الضحضاح، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: هَذَا التَّخْفِيف خَاص بِهَذَا وبمن ورد النَّص فِيهِ، وَالله أعلم. وَمن جملَة مَا يشْتَمل هَذَا على حُرْمَة الْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ بِلَا خلاف، وَاخْتلف فِي الْأُخْتَيْنِ بِملك الْيَمين، وكافة الْعلمَاء على التَّحْرِيم أَيْضا خلافًا لأهل الظَّاهِر، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَن عُثْمَان: حرمتهما آيَة وأحلتهما آيَة، وَالْآيَة الْمحلة لَهَا قَوْله تَعَالَى: {وَأحل لكم ماوراء ذَلِكُم} (النِّسَاء: ٤٢) وَحَكَاهُ الطَّحَاوِيّ وَعَن عَليّ وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَقد رُوِيَ الْمَنْع عَن عَمْرو عَليّ أَيْضا وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وعمار وَابْن عمر وَعَائِشَة وَابْن الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَمِمَّا يشْتَمل هَذَا أَيْضا على ثُبُوت حُرْمَة الرَّضَاع بَين الرَّضِيع والمرضعة، فَإِنَّهَا تصير بِمَنْزِلَة أمه من الْولادَة، وَيحرم عَلَيْهِ نِكَاحهَا أبدا وَيحل لَهُ النّظر إِلَيْهَا وَالْخلْوَة بهَا والمسافرة مَعهَا، وَلَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ أَحْكَام الأمومة من كل وَجه، فَلَا توارث وَلَا نَفَقَة وَلَا عتق بذلك بِالْملكِ وَلَا ترد شَهَادَته لَهَا وَلَا يعقل عَنْهَا وَلَا يسْقط عَنْهُمَا الْقصاص بِقَتْلِهِمَا، وَمن ذَلِك انتشار الْحُرْمَة بَين الْمُرضعَة وَأَوْلَاد الرَّضِيع وَبَين الرَّضِيع وَأَوْلَاد الْمُرضعَة وَحُرْمَة الرَّضَاع بَين الرَّضِيع وَزوج الْمُرضعَة وَيصير الرَّضِيع ولدا لَهُ وَأَوْلَاد الرجل إخْوَة الرَّضِيع، وإخوة الرجل أعمام الرَّضِيع وأخواته عماته وَيكون أَوْلَاد الرَّضِيع أَوْلَاد الرجل، وَلم يُخَالف فِي ذَلِك إلَاّ أهل الظَّاهِر وَابْن علية فَإِنَّهُم قَالُوا بِحرْمَة الرَّضَاع بَين الرجل الرَّضِيع، كَذَا نَقله الْخطابِيّ وعياض عَنْهُمَا، وَزَاد الْخطابِيّ، ابْن الْمسيب.
١٢ - (بابُ مَنْ قل لَا رَضاعَ بعْدَ حَوْلَينِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول من قَالَ: لَا رضَاع بعد سنتَيْن، وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِك عَامر الشّعبِيّ وَابْن شبْرمَة وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute