مَذْهَب أبي حنيفَة دَلِيلا، وأحفظها للْمَسَاكِين، وأولاها قيَاما بشكر النِّعْمَة، وَعَلِيهِ يدل عُمُوم الْآيَة والْحَدِيث، وَقد رام الْجُوَيْنِيّ أَن يخرج عُمُوم الحَدِيث من يَدي أبي حنيفَة بِأَن قَالَ: إِن هَذَا الحَدِيث لم يَأْتِ للْعُمُوم، وَإِنَّمَا جَاءَ لتفصيل الْفرق بَين مَا يقلّ وَيكثر مؤونته وَأبْدى، فِي ذَلِك وَأعَاد، وَلَيْسَ بممتنع أَن يَقْتَضِي الحَدِيث الْوَجْهَيْنِ: الْعُمُوم وَالتَّفْصِيل، وَذَلِكَ أكمل فِي الدَّلِيل وَأَصَح فِي التَّأْوِيل. انْتهى. وَقَالَ الْقَرَافِيّ فِي (الذَّخِيرَة الْمَالِكِيَّة) وَالظَّاهِر أَنه نَقله من كَلَام الْجُوَيْنِيّ: إِن الْكَلَام إِذا سيق لِمَعْنى لَا يحْتَج بِهِ فِي غَيره، وَهَذِه قَاعِدَة أصولية، فَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِنَّمَا المَاء من المَاء) ، لَا يسْتَدلّ بِهِ على جَوَاز المَاء الْمُسْتَعْمل، لِأَنَّهُ لم يرد إلَاّ لبَيَان حصر الْوُجُوب للْغسْل، فَكَذَا قَوْله: (فِيمَا سقت السَّمَاء الْعشْر) ورد لبَيَان جُزْء الْوَاجِب لَا لبَيَان مَحل الْوُجُوب، فَلَا يسْتَدلّ بِهِ عَلَيْهِ. انْتهى. قلت: النَّص اشْتَمَل على جملتين: شَرْطِيَّة وجزائية، فالجملة الشّرطِيَّة لعُمُوم مَحل الْوَاجِب، فإلغاء عمومها بَاطِل، وَالْجُمْلَة الجزائية لبَيَان مِقْدَار الْوَاجِب، مِثَاله قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من قتل قَتِيلا فَلهُ سلبه) ، فالجملة الشّرطِيَّة وَهِي الأولى وَردت لبَيَان سَبَب اسْتِحْقَاق الْقَاتِل، وَعُمُوم من فعل ذَلِك. وَالْجُمْلَة الثَّانِيَة: الجزائية، وَردت لبَيَان مَا يسْتَحقّهُ، وَهُوَ سلب الْمَقْتُول، واختصاصه بِهِ، فَلَا يجوز إبِْطَال مَدْلُول الشَّرْط كَمَا لَا يجوز إبِْطَال مَدْلُول الْجَزَاء، وَلَيْسَ هَذَا نَظِير مَا اسْتشْهد بِهِ الْقَرَافِيّ، وَقد يساق الْكَلَام لأمر وَله تعلق بِغَيْرِهِ وإيماء بِهِ وَإِشَارَة إِلَيْهِ، ألَا ترى إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وعَلى الْمَوْلُود لَهُ رزقهن وكسوتهن} (الْبَقَرَة: ٣٣٢) . سيقت الْآيَة لبَيَان وجوب نَفَقَة المطلقات وكسوتهن إِذا أرضعن أَوْلَادهنَّ، وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَن للْأَب تَأْوِيلا فِي نفس الْوَلَد وَمَاله حَتَّى لَا يسْتَوْجب الْعقُوبَة بوطىء جَارِيَته، وَلَا بِسَبَبِهِ، ذكره السَّرخسِيّ فِي (أُصُوله) ، وَقَاعِدَة الْقَرَافِيّ هَذِه إِن كَانَت صَحِيحَة أبطلت عَلَيْهِ قَاعِدَة مذْهبه ومدركه لِأَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا صَدَقَة فِي حب وَلَا ثَمَر حَتَّى يبلغ خَمْسَة أوسق) سيق لبَيَان تَقْدِير النّصاب، وَنفى الْوُجُوب عَمَّا دون الْخَمْسَة الأوسق، فَلَا يدل حِينَئِذٍ على عُمُوم الْحبّ وَالثَّمَر، وَقد قَالَ: هُوَ عَام فِي الْحُبُوب وَالثِّمَار. فَإِن قلت: روى التِّرْمِذِيّ عَن معَاذ أَنه كتب إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسْأَله عَن الخضروات وَهِي: الْبُقُول، فَقَالَ: لَيْسَ فِيهَا شَيْء! قلت: قَالَ التِّرْمِذِيّ: إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث لَيْسَ بِصَحِيح، وَلَيْسَ يَصح فِي هَذَا الْبَاب عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْء، وَإِنَّمَا يرْوى هَذَا عَن مُوسَى بن طَلْحَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُرْسلا، وروى الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا عَن عَائِشَة قَالَت: جرت السّنة من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَيْسَ فِيمَا أنبتت الأَرْض من الْخضر زَكَاة، وَفِي سَنَده صَالح بن مُوسَى، ضعفه الدَّارَقُطْنِيّ، وروى الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا عَن جَابر، قَالَ: لم يكن المقاثي فِيمَا جَاءَ بِهِ معَاذ، وَلَيْسَ فِي المقاثي شَيْء، وَقد تكون عندنَا المقثاة تخرج عشرَة الْآن، فَلَا يكون فِيهَا شَيْء، قلت: فِي سَنَده عدي بن الْفضل، وَهُوَ مَتْرُوك.
قالَ أبُو عَبْدِ الله هاذا تَفْسِيرُ الأوَّلِ إذَا قالَ لَيْسَ فِيمَا دونَ خَمْسَةِ أوْسُقٍ صَدَقَةٌ لِكَوْنِهِ لَمْ يُبَيِّنْ وَيُؤْخَذُ أبَدا فِي العِلْمِ بِمَا زَادَ أهْلُ الثَّبَتِ أوْ بَيَّنُوا
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ، وَأَرَادَ بِالْأولِ حَدِيث أبي سعيد، وَقد مر هَذَا عَن قريب. قَوْله: (وَيُؤْخَذ أبدا) إِلَى آخِره، يرد عَلَيْهِ مَا بيَّنه أَبُو حنيفَة من استدلاله بِعُمُوم حَدِيث ابْن عمر، وَهُوَ من أهل الْعلم الْكِبَار الْمُجْتَهدين، وَقد بيّن هَذَا، فَيَنْبَغِي أَن يُؤْخَذ بِهِ، والمكابرة مطروحة.
٧٥ - (بابُ أخذِ صَدَقَةِ التَّمْرِ عِنْدَ صِرَامِ النَّخْلِ وهَلْ يُتْرَكُ الصَّبِيُّ فيَمَس تَمْرَ الصَّدَقَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَخذ الصَّدَقَة من التَّمْر عِنْد صرام النّخل، بِكَسْر الصَّاد الْمُهْملَة، وَهُوَ: الْجذاذ والقطاف وزنا وَمعنى، وصرام النّخل أَوَان إِدْرَاكه، وأصرم: حَان صرامه، والصرامة: مَا صرم من النّخل، ونخل صريم مصروم، ذكره ابْن سَيّده. وَفِي (المغيث) : قد يكون الصرام النّخل لِأَنَّهُ يصرم أَي: يجتنى ثمره، والصرام التَّمْر بِعَيْنِه أَيْضا لِأَنَّهُ يصرم، فَسمى بِالْمَصْدَرِ. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: قَوْله: عِنْد صرام النّخل، يُرِيد بعد أَن يصير تَمرا لِأَنَّهُ يصرم النّخل وَهُوَ رطب فيثمر فِي المربد، وَلَكِن ذَاك لَا يَتَطَاوَل، فَحسن أَن ينْسب إِلَيْهِ. قَوْله: (وَهل يتْرك الصَّبِي؟) تَرْجَمَة أُخْرَى، وللترجمة الأولى تعلق بقوله
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute