وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور، وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَعبد الله بن ذكْوَان وسُفْيَان الثَّوْريّ وَعبد الله بن شبْرمَة وَالْحسن ابْن حييّ وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد، رَحِمهم الله لَيْسَ لوَلِيّ الْمَقْتُول أَن يَأْخُذ الدِّيَة إلَاّ برضى الْقَاتِل، وَلَيْسَ لَهُ إلَاّ الْقود أَو الْعَفو. وَاحْتج هَؤُلَاءِ بِمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ عَن أنس أَن الرّبيع بنت النَّضر، عمته لطمت جَارِيَة فَكسرت سنّهَا، فعرضوا عَلَيْهِم الْأَرْش فَأَبَوا، فطلبوا الْعَفو فَأَبَوا، فَأتوا النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأَمرهمْ بِالْقصاصِ، فجَاء أَخُوهَا أنس بن النَّضر، فَقَالَ: يَا رَسُول الله {أتكسر سنّ الرّبيع؟ وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ لَا تكسر سنّهَا. فَقَالَ: يَا أنس} كتاب الله الْقصاص، فَعَفَا الْقَوْم، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن من عباد الله لَو أقسم على الله لَأَبَره) ، فَثَبت بِهَذَا الحَدِيث أَن الَّذِي يجب بِكِتَاب الله وَسنة رَسُول الله فِي الْعمد هُوَ الْقصاص، لِأَنَّهُ لَو كَانَ للْمَجْنِيّ عَلَيْهِ الْخِيَار بَين الْقصاص وَبَين أَخذ الدِّيَة إِذا لخيره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلما حكم لَهَا بِالْقصاصِ بِعَيْنِه فأذا كَانَ كَذَلِك وَجب أَن يحمل قَوْله: فَهُوَ بِخَير النظرين، إِمَّا أَن يفدى وَأما أَن يُقيد على أَخذ الدِّيَة برضى الْقَاتِل، حَتَّى تتفق مَعَاني الْآثَار. وَيُؤَيّد مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: كَانَ فِي بني إِسْرَائِيل الْقصاص، وَلم يكن فيهم الدِّيَة فَقَالَ الله لهَذِهِ الْأمة: {كتب عَلَيْكُم الْقصاص فِي الْقَتْلَى} (الْبَقَرَة: ٨٧١) . الْآيَة، وَقَوله: {فَمن عفى لَهُ من أَخِيه شَيْء} (الْبَقَرَة: ٨٧١) . فالعفو أَن يقبل الدِّيَة فِي الْعمد، قَوْله: {ذَلِك تَخْفيف من ربكُم} (الْبَقَرَة: ٨٧١) . يَعْنِي: مِمَّا كتب على من كَانَ قبلكُمْ، أَو نقُول: التَّخْيِير من الشَّرْع تَجْوِيز الْفِعْلَيْنِ وَبَيَان المشروعية فيهمَا وَنفي الْحَرج عَنْهُمَا، كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الربويات: (إِذا اخْتلف الجنسان فبيعوا كَيفَ شِئْتُم) ، مَعْنَاهُ: تَجْوِيز البيع مفاضلة ومماثلة بِمَعْنى نفي الْحَرج عَنْهُمَا، وَلَيْسَ فِيهِ أَن يسْتَقلّ بِهِ دون رضى المُشْتَرِي، فَكَذَا هُنَا جَوَاز الْقصاص وَجَوَاز أَخذ الدِّيَة، وَلَيْسَ فِيهِ اسْتِقْلَال يَسْتَغْنِي بِهِ عَن رضى الْقَاتِل. فَإِن قلت: قد أخبر الله تَعَالَى فِي الْآيَة الْمَذْكُورَة أَن للْوَلِيّ الْعَفو وَاتِّبَاع الْقَاتِل بِإِحْسَان فَيَأْخُذ الدِّيَة من الْقَاتِل، وَإِن لم يكن اشْترط ذَلِك فِي عَفوه. قلت: الْعَفو فِي اللُّغَة الْبَذْل: {خُذ الْعَفو} (الْأَعْرَاف: ٩٩١) . أَي: مَا سهل، فَإِذا الْمَعْنى: فَمن بذل لَهُ شَيْء من الدِّيَة فليقبل، والإبذال لَا يجب إلَاّ برضى من يجب لَهُ ورضى من يجب عَلَيْهِ.
٨ - (بابٌ لَا تُحْتَلَبُ ماشِيَةُ أحَدٍ بِغَيْرِ إذْنٍ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: لَا تحتلب مَاشِيَة أحد بِغَيْر إِذن صَاحبهَا، والماشية تقع على الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم، وَلكنه فِي الْغنم أَكثر، قَالَه ابْن الْأَثِير. قَوْله: (بِغَيْر إِذن) بِالتَّنْوِينِ، ويروى: (بِغَيْر إِذْنه) . مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْقَضَاء وَأَبُو دَاوُد فِي الْجِهَاد جَمِيعًا بِالْإِسْنَادِ الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيّ (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " عَن نَافِع فِي موطأ مُحَمَّد بن الْحسن أخبرنَا نَافِع وَفِي رِوَايَة أبي قطن فِي الموطآت للدارقطني قلت لمَالِك أحَدثك نَافِع قَوْله " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وَفِي رِوَايَة يزِيد بن الْهَاد عَن مَالك عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا أَنه سمع رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول قَوْله " لَا يحلبن بِضَم اللَّام وبالنون الثَّقِيلَة كَذَا فِي البُخَارِيّ وَأكْثر الموطآت وَفِي رِوَايَة ابْن الْهَاد " لَا يحتلبن " من الاحتلاب من بَاب الافتعال قَوْله " مَاشِيَة امرىء " وَفِي رِوَايَة ابْن الْهَاد وَجَمَاعَة من رُوَاة الْمُوَطَّأ " مَاشِيَة رجل " وَفِي بعض شُرُوح الْمُوَطَّأ بِلَفْظ " مَاشِيَة أَخِيه " وكل وَاحِد مِنْهُمَا لَيْسَ بِقَيْد لِأَنَّهُ لَا اخْتِصَاص لَهُ بِالرِّجَالِ وَلَا بِالْمُسْلِمين لأَنهم سَوَاء فِي هَذَا الحكم قيل فرق بَين الْمُسلم وَالذِّمِّيّ فَلَا يحْتَاج إِلَى الْإِذْن فِي الذِّمِّيّ لِأَن الصَّحَابَة شرطُوا على أهل الذِّمَّة من الضِّيَافَة للْمُسلمين وَصَحَّ ذَلِك عَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَذكر ابْن وهب عَن مَالك فِي الْمُسَافِر ينزل بالذمي قَالَ لَا يَأْخُذ مِنْهُ شَيْئا إِلَّا بِإِذْنِهِ قيل لَهُ فالضيافة الَّتِي جعلت عَلَيْهِم قَالَ كَانُوا يَوْمئِذٍ يُخَفف عَنْهُم بِسَبَبِهَا وَأما
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute