عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (كل سلامي من النَّاس عَلَيْهِ صَدَقَة كل يَوْم تطلع فِيهِ الشَّمْس) الحَدِيث، وَرُوِيَ عَن أبي ذَر مَرْفُوعا: (يصبح على كل سلامي على أحدكُم صَدَقَة) . والسلامي، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف اللَّام: الْمفصل، وَله فِي حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: (خلق الله كل إِنْسَان من بني آدم على سِتِّينَ وثلاثمائة مفصل) . قَوْله: (يَا نَبِي الله فَمن لم يجد؟) أَي: فَمن لم يقدر على الصَّدَقَة، فكأنهم فَهموا من الصَّدَقَة الْعَطِيَّة، فَلذَلِك قَالُوا: فَمن لم يجد، فَبين لَهُم أَن المُرَاد بِالصَّدَقَةِ مَا هُوَ أَعم من ذَلِك وَلَو بإغاثة الملهوف وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ. قَوْله: (يعْمل بِيَدِهِ) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (يعتمل بيدَيْهِ) ، من الإعتمال من بَاب الافتعال. وَفِيه معنى التَّكَلُّف. قَوْله: (يعين) من أعَان إِعَانَة. قَوْله: (الملهوف) بِالنّصب لِأَنَّهُ صفة: ذَا الْحَاجة، وانتصاب هَذَا على المفعولية، والملهوف يُطلق على المتحسر والمضطر وعَلى الْمَظْلُوم، وتلهف على الشَّيْء تحسر. قَوْله: (فليعمل بِالْمَعْرُوفِ) وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الْأَدَب: (قَالُوا فَإِن لم يفعل؟ قَالَ: فليمسك عَن الشَّرّ) . وَإِذا أمسك شَره عَن غَيره فَكَأَنَّهُ قد تصدق عَلَيْهِ لأمنه مِنْهُ، فَإِن كَانَ شرا لَا يعدو نَفسه فقد تصدق على نَفسه، بِأَن منعهَا من الْإِثْم. قَوْله: (فَإِنَّهَا) تَأْنِيث الضَّمِير فِيهِ إِمَّا بِاعْتِبَار الفعلة الَّتِي هِيَ الْإِمْسَاك، أَو بِاعْتِبَار الْخَبَر، وَوَقع فِي رِوَايَة الْأَدَب: فَإِنَّهُ، أَي: فَإِن الْإِمْسَاك. قَوْله: (لَهُ) أَي: للممسك.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: يُسْتَفَاد مِنْهُ أَن الشَّفَقَة على خلق الله تَعَالَى لَا بُد مِنْهَا، وَهِي إِمَّا بِالْمَالِ أَو بِغَيْرِهِ، وَالْمَال إِمَّا حَاصِل أَو مَقْدُور التَّحْصِيل لَهُ والغير، إِمَّا فعل، وَهُوَ: الْإِعَانَة، أَو ترك وَهُوَ: الْإِمْسَاك، وأعمال الْخَيْر إِذا حسنت النيات فِيهَا تنزل منزلَة الصَّدقَات فِي الأجور وَلَا سِيمَا فِي حق من لَا يقدر على الصَّدَقَة، وَيفهم مِنْهُ أَن الصَّدَقَة فِي حق الْقَادِر عَلَيْهَا أفضل من سَائِر الْأَعْمَال القاصرة على فاعلها، وَأجر الْفَرْض أَكثر من النَّفْل، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة عَن الرب، عز وَجل: (وَمَا تقرب إِلَى عَبدِي بِشَيْء أحب إِلَيّ مِمَّا افترضت عَلَيْهِ) . قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ، عَن بعض الْعلمَاء: ثَوَاب الْفَرْض يزِيد على ثَوَاب النَّافِلَة بسبعين دَرَجَة.
وَاعْلَم أَنه لَا تَرْتِيب فِيمَا تضمنه الحَدِيث الْمَذْكُور، وَإِنَّمَا هُوَ للإيضاح لما يَفْعَله من عجز عَن خصْلَة من الْخِصَال الْمَذْكُورَة، فَإِنَّهُ يُمكنهُ خصْلَة أُخْرَى، فَمن أمكنه أَن يعْمل بِيَدِهِ فَيتَصَدَّق، وَأَن يغيث الملهوف وَأَن يَأْمر بِالْمَعْرُوفِ وَينْهى عَن الْمُنكر ويمسك عَن الشَّرّ فَلْيفْعَل الْجَمِيع.
وَفِيه: فضل التكسب لما فِيهِ من الْإِعَانَة وَتَقْدِيم النَّفس على الْغَيْر، وَالله أعلم.
١٣ - (بابٌ قَدْرُ كَمْ يُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَمَنْ أعْطَى شَاة)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قدر كم يُعْطي من الزَّكَاة، وَكم يُعْطي من الصَّدَقَة؟ وَإِنَّمَا لم يبين الكمية فِيهَا إعتمادا على سبق الأفهام إِلَيْهِ، لِأَن عَادَته قد جرت بِمثل ذَلِك فِي مَوَاضِع كَثِيرَة، أما الكمية فِي قدر مَا يُعْطي من الزَّكَاة فقد علمت فِي أَبْوَاب الزَّكَاة فِي كل صنف من الْأَصْنَاف، وَقد أَشَارَ فِي الْكتاب إِلَى أَكْثَرهَا على مَا يَجِيء، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَقد علم أَيْضا أَن التنقيص فِيهَا من الَّذِي نَص عَلَيْهِ الشَّارِع لَا يجوز، وَأما الكمية فِي الصَّدَقَة فَغير مقدرَة لِأَن الْمُتَصَدّق محسن، وَالله يحب الْمُحْسِنِينَ. قَوْله: (كم يعْطى) على بِنَاء الْمَجْهُول، وَيجوز أَن يكون على بِنَاء الْمَعْلُوم أَي: مِقْدَار كم يُعْطي الْمُزَكي فِي زَكَاته، وَكم يُعْطي الْمُتَصَدّق فِي صدقته. وَقَالَ بَعضهم: وَحذف مفعول يُعطي اختصارا لكَوْنهم ثَمَانِيَة أَصْنَاف، وَأَشَارَ بذلك إِلَى الرَّد على من كره أَن يدْفع إِلَى شخص وَاحِد قدر النّصاب، وَهُوَ محكي عَن أبي حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قلت: لَيْت شعري كم من لَيْلَة سهر هَذَا الْقَائِل حَتَّى سطر هَذَا الْكَلَام الَّذِي تمجه الأسماع، وَحذف الْمَفْعُول هُنَا كَمَا فِي قَوْلهم: فلَان يعْطى وَيمْنَع، وَكَيف يدل ذَلِك على الرَّد على أبي حنيفَة، رَحمَه الله تَعَالَى، وَلَكِن هَذَا يطرد فِي الصَّدَقَة وَلَا يطرد فِي الزَّكَاة على مَا لَا يخفى. قَوْله: (وَالصَّدَََقَة) من عطف الْعَام على الْخَاص، قيل: لَو اقْتصر على الزَّكَاة لأوهم أَن غَيرهَا بِخِلَافِهَا. قلت: لَا يشك أحد أَن حكم الصَّدَقَة غير حكم الزَّكَاة إِذا ذكرت فِي مُقَابلَة الزَّكَاة، وَأما إِذا أطلق لفظ الصَّدَقَة فَتكون شَامِلَة لَهما. قَوْله: (وَمن أعْطى شَاة) ، عطف على قَوْله: (قدر كم يُعْطي؟) أَي: وَفِي بَيَان حكم من أعْطى شَاة فَكَأَنَّهُ أَشَارَ بذلك إِلَى أَنه إِذا أعْطى شَاة فِي الزَّكَاة، إِنَّمَا تجوز إِذا كَانَت كَامِلَة، لِأَن الشَّارِع نَص على كَمَال الشَّاة فِي مَوضِع تُؤْخَذ مِنْهُ الشَّاة، فَإِذا أعْطى جزأ مِنْهَا لَا يجوز، وَأما فِي الصَّدَقَة فَيجوز أَن يُعْطي الشَّاة كلهَا وَيجوز أَن يُعْطي جزأ مِنْهَا، على مَا يَأْتِي بَيَان ذَلِك فِي حَدِيث الْبَاب إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute