وَهُوَ الْقلب، وَالْأول: كِنَايَة عَن إِلْقَاء الْبُهْتَان من تِلْقَاء أنفسهم، وَالثَّانِي: عَن إنْشَاء الْبُهْتَان من دخيلة قُلُوبهم مَبْنِيا على الْغِشّ المبطن. وَقَالَ الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ: لَا تبهتوا النَّاس بالمعايب كفاحاً مُوَاجهَة، وَهَذَا كَمَا يَقُول الرجل: فعلت هَذَا بَين يَديك، أَي: بحضرتك. وَقَالَ التَّيْمِيّ: هَذَا غير صَوَاب من حَيْثُ إِن الْعَرَب، وَإِن قَالَت: فعلته بَين أَيدي الْقَوْم، أَي: بحضرتهم لم تقل: فعلته بَين أَرجُلهم، وَلم ينْقل عَنْهُم هَذَا أَلْبَتَّة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ صَوَاب، إِذْ لَيْسَ الْمَذْكُور الأرجل فَقَط، بل المُرَاد الْأَيْدِي، وَذكر الأرجل تَأْكِيدًا لَهُ وتابعاً لذَلِك، فالمخطىء مخطىء وَيُقَال: يحْتَمل أَن يُرَاد بِمَا بَين الْأَيْدِي والأرجل الْقلب، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يترجم اللِّسَان عَنهُ، فَلذَلِك نسب إِلَيْهِ الافتراء،، فَإِن الْمَعْنى: لَا ترموا أحدا بكذب تزوِّرونه فِي أَنفسكُم ثمَّ تبهتون صَاحبكُم بألسنتكم. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد بن أبي جَمْرَة: يحْتَمل أَن يكون قَوْله: بَين أَيْدِيكُم، أَي: فِي الْحَال، قَوْله: وأرجلكم أَي: فِي الْمُسْتَقْبل، لِأَن السَّعْي من أَفعَال الأرجل. وَقَالَ غَيره: أصل هَذَا كَانَ فِي بيعَة النِّسَاء، وكنى بذلك كَمَا قَالَ الْهَرَوِيّ فِي (الغريبين) عَن نِسْبَة الْمَرْأَة الْوَلَد الَّذِي تَزني بِهِ أَو تلتقطه إِلَى زَوجهَا، ثمَّ لما اسْتعْمل هَذَا اللَّفْظ فِي بيعَة الرِّجَال احْتِيجَ إِلَى حمله على غير مَا ورد فِيهِ أَولا. قلت: وَقد جَاءَ فِي رِوَايَة لمُسلم: وَلَا نقْتل أَوْلَادنَا، وَلَا يعضه بَعْضنَا بَعْضًا، أَي: لَا يسخر. وَقيل: لَا يَأْتِي بِبُهْتَان، يُقَال: عضهت الرجل رميته بالعضيهة؛ قَالَ الْجَوْهَرِي: العضيهة البهيتة، وَهُوَ الْإِفْك والبهتان، تَقول يَا للعضيهة. بِكَسْر اللَّام، وَهِي استغاثة، وَأَصله من: عضهه عضهاً بِالْفَتْح، وَقَالَ الْكسَائي: العضه الْكَذِب، وَجَمعهَا عضون، مثل: عزة وعزون، وَيُقَال نقصانه الْهَاء وَأَصله عضهة. وَمِنْهَا مَا قيل: لم قيد قَوْله: (وَلَا تعصوا) ، بقوله: (فِي مَعْرُوف) ؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ قَيده بذلك تطييباً لنفوسهم، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام، لَا يَأْمر إلَاّ بِالْمَعْرُوفِ. وَقَالَ النَّوَوِيّ: يحْتَمل فِي معنى الحَدِيث: وَلما تعصوني، وَلَا أجد عَلَيْكُم أولى من اتباعي إِذا أَمرتكُم بِالْمَعْرُوفِ، فَيكون التَّقْيِيد بِالْمَعْرُوفِ عَائِدًا إِلَى الِاتِّبَاع، وَلِهَذَا قَالَ: لَا تعصوا وَلم يقل وَلَا تعصوني. قلت: فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ، فِي بَاب وُفُود الْأَنْصَار: وَلَا تعصوني، فحينئذٍ الْأَحْسَن هُوَ الْجَواب الأول. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: فِي آيَة المبايعات: فَإِن قلت: لَو اقْتصر على قَوْله: لَا يَعْصِينَك، فقد علم أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَا يَأْمر إلَاّ بِالْمَعْرُوفِ. قلت: نبه بذلك على أَن طَاعَة الْمَخْلُوق فِي مَعْصِيّة الْخَالِق جديرة بغاية التوقي والاجتناب. وَمِنْهَا مَا قيل: قد ذكر فِي الاعتقاديات والعمليات كلتيهما، فلِمَ اكْتفى فِي الاعتقاديات بِالتَّوْحِيدِ؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ هُوَ الأَصْل والأساس. وَمِنْهَا مَا قيل: فلِمَ مَا ذكر الْإِتْيَان بالواجبات وَاقْتصر على ترك المنهيات؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ لم يقْتَصر حَيْثُ قَالَ: وَلَا تعصوا فِي مَعْرُوف، إِذْ الْعِصْيَان مُخَالفَة الْأَمر، أَو اقْتصر لِأَن هَذِه الْمُبَايعَة كَانَت فِي أَوَائِل الْبعْثَة وَلم تشرع الْأَفْعَال بعد. وَمِنْهَا مَا قيل: لِمَ قدم ترك المنهيات على فعل المأمورات؟ وَأجِيب: بِأَن التخلي عَن الرذائل مقدم على التحلي بالفضائل. وَمِنْهَا مَا قيل: فلِمَ ترك سَائِر المنهيات وَلم يقل مثلا {وَلَا تقربُوا مَال الْيَتِيم} (الْأَنْعَام: ١٥٢، والإسراء: ٣٤) وَغير ذَلِك؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ لم يكن فِي ذَلِك الْوَقْت حرَام آخر، أَو اكْتفى بِالْبَعْضِ ليقاس الْبَاقِي عَلَيْهِ، أَو لزِيَادَة الاهتمام بالمذكورات. وَمِنْهَا مَا قيل: إِن قَوْله: (فَأَجره على الله) يشْعر بِالْوُجُوب على الله لكلمة: على وَأجِيب: بِأَن هَذَا وَارِد على سَبِيل التفخيم نَحْو قَوْله تَعَالَى: {فقد وَقع أجره على الله} (النِّسَاء: ١٠٠) وَيتَعَيَّن حمله على غير ظَاهره للأدلة القاطعة على أَنه لَا يجب على الله شَيْء. وَمِنْهَا مَا قيل: لفظ الْأجر مشْعر بِأَن الثَّوَاب إِنَّمَا هُوَ مُسْتَحقّ كَمَا هُوَ مَذْهَب الْمُعْتَزلَة لَا مُجَرّد فضل كَمَا هُوَ مَذْهَب أهل السّنة وَالْجَمَاعَة، وَأجِيب: بِأَنَّهُ إِنَّمَا أطلق الْأجر لِأَنَّهُ مشابه لِلْأجرِ، صُورَة لترتبه عَلَيْهِ.
١٢ - (بَاب مِنَ الدِّينِ الفِرَارُ مِنَ الفِتَنِ)
أَي: هَذَا بَاب، وَلَا يجوز فِيهِ الْإِضَافَة. وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن معنى الْبَاب الأول مُتَضَمّن معنى هَذَا الْبَاب، وَذَلِكَ لِأَن النُّقَبَاء من الْأَنْصَار، والانصار كلهم خيروا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبذلوا أَرْوَاحهم وَأَمْوَالهمْ فِي محبته فِرَارًا بدينهم من فتن الْكفْر والضلال، وَكَذَلِكَ هَذَا الْبَاب يبين فِيهِ ترك الْمُسلم الِاخْتِلَاط بِالنَّاسِ ومعاشرتهم، واختياره الْعُزْلَة والانقطاع فِرَارًا بِدِينِهِ من فتن النَّاس والاختلاط بهم. فَإِن قلت: لِمَ لَمْ يقل: بَاب من الْإِيمَان الْفِرَار من الْفِتَن، كَمَا ذكر هَكَذَا فِي أَكثر الْأَبْوَاب الْمَاضِيَة والأبواب الْآتِيَة، وَأَيْضًا عقد الْكتاب فِي الْإِيمَان؟ قلت: إِنَّمَا قَالَ ذَلِك ليطابق التَّرْجَمَة الحَدِيث الَّذِي يذكرهُ فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute