للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

هَذَا الحَدِيث وَغَيره أَنه كَانَ حِين كَانَ حكم الْكلاب أَن تقتل، وَكَانَ لَا يحل إِِمْسَاكهَا، وَقد وَردت فِيهِ أَحَادِيث كَثِيرَة، فَمَا كَانَ على هَذَا الحكم فثمنه حرَام، ثمَّ لما أُبِيح الِانْتِفَاع بالكلاب للاصطياد وَنَحْوه، وَنهى عَن قَتلهَا، نسخ مَا كَانَ من النَّهْي عَن بيعهَا وَتَنَاول ثمنهَا. فَإِن قلت: مَا وَجه هَذَا النّسخ؟ قلت: ظَاهر، لِأَن الأَصْل فِي الْأَشْيَاء الْإِبَاحَة، فَلَمَّا ورد النَّهْي عَن اتخاذها ورد الْأَمر بقتلها علمنَا أَن اتخاذها حرَام، وَأَن بيعهَا حرَام، وَمَا كَانَ الِانْتِفَاع بِهِ حَرَامًا فثمنه حرَام كالخنزير، ثمَّ لما وَردت الْإِبَاحَة بِالِانْتِفَاعِ بهَا للاصطياد وَنَحْوه، وَورد النَّهْي عَن قَتلهَا، علمنَا أَنما كَانَ قبل من الْحكمَيْنِ الْمَذْكُورين قد انتسخ بِمَا ورد بعده، وَلَا شكّ أَن الْإِبَاحَة بعد التَّحْرِيم نسخ لذَلِك التَّحْرِيم، وَرفع لحكمه.

الثَّالِث: فِيهِ النَّهْي عَن ثمن الدَّم، وَهُوَ أُجْرَة الْحجامَة. فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: النَّهْي فِيهِ على التَّنْزِيه على الْمَشْهُور، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، احْتجم وَأعْطى الْحجام أجره، وَلَو كَانَ حَرَامًا لم يُعْطه. وَنقل ابْن التِّين عَن كثير من الْعلمَاء أَنه جَائِز من غير كَرَاهَة، كالبناء والخياط وَسَائِر الصناعات. وَقَالُوا: يَعْنِي نَهْيه عَن ثمن الدَّم، أَي: السَّائِل الَّذِي حرمه الله. وَقَالَ أَبُو حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أُجْرَة الْحجام من ذَلِك، أَي: لَا يجوز أَخذه، وَهُوَ قَول أبي هُرَيْرَة وَالنَّخَعِيّ، وَاعْتَلُّوا بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن مهر الْبَغي وَكسب الْحجام، فَجمع بَينهمَا. وَمهر الْبَغي حرَام إِجْمَاعًا، فَكَذَلِك كسب الْحجام. وَأما الَّذين حملُوا النَّهْي على التَّنْزِيه فاستدلوا أَيْضا بقوله لمحيصة: أعلفه ناضحك وأطعمه رقيقك. وَقَالَ آخَرُونَ: يجوز للمحتجم إِعْطَاء الْحجام الْأُجْرَة وَلَا يجوز للحجام أَخذهَا، رَوَاهُ ابْن جرير عَن أبي قلَابَة، وعلته أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعْطى الْحجام أجرا، فَجَائِز لهَذَا الِاقْتِدَاء بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَفعاله، وَلَيْسَ للحجام أَخذهَا للنَّهْي عَن كَسبه. وَبِه قَالَ ابْن جرير، إلَاّ أَنه قَالَ: إِن أَخذ الْأُجْرَة رَأَيْت لَهُ أَن يعلف بِهِ نَاضِحَهُ ومواشيه وَلَا يَأْكُلهُ، فَإِن أكله لم أرَ بِأَكْلِهِ حَرَامًا. وَفِي (شرح الْمُهَذّب) : قَالَ الْأَكْثَرُونَ لَا يحرم أكله لَا على الْحر وَلَا على العَبْد، وَهُوَ مَذْهَب أَحْمد الْمَشْهُور، وَفِي رِوَايَة عَنهُ، وَقَالَ بهَا فُقَهَاء الْمُحدثين يحرم على الْحر دون العَبْد لحَدِيث محيصة الْمَذْكُور. الرَّابِع: فِي النَّهْي عَن فعل الواشمة والموشومة، لِأَنَّهُ من عمل الْجَاهِلِيَّة، وَفِيه تَغْيِير لخلق الله تَعَالَى، وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (لعن الله الْوَاصِلَة وَالْمسْتَوْصِلَة، والواشمة والمستوشمة) ، قَالَ نَافِع: الوشم فِي اللثة، وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي اللبَاس على مَا سَيَأْتِي، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَعَن عبد الله (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعن الْوَاشِمَات وَالْمُسْتَوْشِمَات وَالْمُتَنَمِّصَات مبتغيات لِلْحسنِ مغيرات خلق الله) ، أخرجه الْجَمَاعَة.

الْخَامِس: آكل الرِّبَا وموكله، وَإِنَّمَا اشْتَركَا فِي الْإِثْم، وَإِن كَانَ الرابح أَحدهمَا لِأَنَّهُمَا فِي الْفِعْل شريكان، وَسَيَأْتِي فِي آخر الْبيُوع وَفِي آخر الطَّلَاق أَنه: لعن آكل الرِّبَا وموكله.

السَّادِس: فِي التَّصْوِير، وَهُوَ حرَام بِالْإِجْمَاع، وفاعله يسْتَحق اللَّعْنَة، وَجَاء أَنه يُقَال للمصورين يَوْم الْقِيَامَة: أحيوا مَا خلقْتُمْ. وَظَاهر الحَدِيث الْعُمُوم، وَلَكِن خفف مِنْهُ تَصْوِير مَا لَا روح فِيهِ: كالشجر، وَنَحْوه.

٦٢ - (بابٌ {يمْحَقُ الله الرِّبَا ويُرْبي الصَّدَقاتِ وَالله لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أثِيم} (الْبَقَرَة: ٦٧٢) .)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {يمحق الله الرِّبَا ويربي الصَّدقَات} (الْبَقَرَة: ٦٧٢) . الْآيَة. ويمحق: من محق يمحق محقا من بَاب فعل يفعل بِفَتْح الْعين فيهمَا، والمحق النُّقْصَان وَذَهَاب الْبركَة. وَقيل: هُوَ أَن يذهب كُله حَتَّى لَا يرى مِنْهُ أثر. وَمِنْه: {يمحق الله الرِّبَا} (الْبَقَرَة: ٦٧٢) . أَي: يستأصله وَيذْهب ببركته وَيهْلك المَال الَّذِي يدْخل فِيهِ. وَفِي تَفْسِير الطَّبَرِيّ عَن ابْن مَسْعُود: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (الرِّبَا وَإِن كثر فَإلَى قل) . وَقَالَ الْمُهلب: سُئِلَ بعض الْعلمَاء، وَقيل: نَحن نرى صَاحب الرِّبَا يَرْبُو مَاله، وَصَاحب الصَّدَقَة إِنَّمَا كَانَ مقلاً. فَقَالَ: يُربي الصَّدقَات، يَعْنِي: أَن صَاحبهَا يجدهَا مثل أحد يَوْم الْقِيَامَة، وَصَاحب الرِّبَا يجد عمله ممحوقا إِن تصدق بِهِ أَو وصل رَحمَه، لِأَنَّهُ لم يكْتب لَهُ بذلك حَسَنَة، وَكَانَ عَلَيْهِ إِثْم الرِّبَا. وَقَالَ ابْن بطال: وَقَالَت طَائِفَة إِن الرِّبَا يمحق فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة على عُمُوم اللَّفْظ. وَقَالَ عبد الرَّزَّاق عَن معمر: أَنه قَالَ: سمعنَا أَنه لَا يَأْتِي على صَاحب الرِّبَا أَرْبَعُونَ سنة حَتَّى يمحق. قَوْله: {يُربي الصَّدقَات} (الْبَقَرَة: ٦٧٢) . أَي: يزيدها من الإرباء. قَالَ الطَّبَرِيّ: الإرباء: الزِّيَادَة على الشَّيْء. يُقَال مِنْهُ: أربى فلَان على فلَان إِذا زَاد عَلَيْهِ، وقرىء: ويربِّي، بِضَم الْيَاء وَفتح الرَّاء وَكسر الْبَاء الْمُشَدّدَة من التربية، كَمَا فِي (الصَّحِيح) : (من تصدق بِعدْل تَمْرَة) الحَدِيث، وَفِيه: (ثمَّ يُرَبِّيهَا لصَاحبه كَمَا يُربي أحدكُم فلوه حَتَّى يكون مثل الْجَبَل) . وَفِي

<<  <  ج: ص:  >  >>