ثمَّ إعلم أَن الْعلمَاء أَجمعُوا على وجوب حد جلد الزَّانِي الْبكر مائَة، ورجم الْمُحصن وَهُوَ الثّيّب، وَلم يُخَالف فِي هَذَا أحد من أهل الْقبْلَة إلَاّ مَا حكى القَاضِي وَغَيره عَن الْخَوَارِج وَبَعض الْمُعْتَزلَة: كالنظام وَأَصْحَابه، فَإِنَّهُم لم يَقُولُوا بِالرَّجمِ، وَاخْتلفُوا فِي جلد الثّيّب مَعَ الرَّجْم، فَقَالَت طَائِفَة: يجب الْجمع بَينهمَا فيجلد ثمَّ يرْجم، وَبِه قَالَ عَليّ بن أبي طَالب وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَإِسْحَاق ابْن رَاهَوَيْه وَدَاوُد وَأهل الظَّاهِر وَبَعض أَصْحَاب الشَّافِعِي. وَقَالَ جَمَاهِير الْعلمَاء: الْوَاجِب الرَّجْم وَحده، وَحكى القَاضِي عِيَاض عَن طَائِفَة من أهل الحَدِيث أَنه يجب الْجمع بَينهمَا إِذا كَانَ الزَّانِي شَيخا ثَيِّبًا وَإِن كَانَ شَابًّا ثَيِّبًا اقْتصر على الرَّجْم وَهَذَا مَذْهَب بَاطِل لَا أصل لَهُ، وَالْمرَاد من الْبكر من الرِّجَال من لم يُجَامع فِي نِكَاح صَحِيح، وَهُوَ حر عَاقل بَالغ، وَالْمرَاد من الثّيّب من جَامع فِي دهره مرّة بِنِكَاح صَحِيح وَهُوَ حر عَاقل بَالغ، وَالرجل وَالْمَرْأَة فِي هَذَا سَوَاء. قَالَ النَّوَوِيّ: وَسَوَاء فِي كل هَذَا الْمُسلم وَالْكَافِر والرشيد والمحجور عَلَيْهِ بِسَفَه، وَقَالَ أَيْضا: وَأما قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْبكر: (وَنفي سنة) ، فَفِيهِ حجَّة للشَّافِعِيّ، والجماهير أَنه يجب نَفْيه سنة رجلا كَانَ أَو امْرَأَة. وَقَالَ الْحسن: لَا يجب النَّفْي. وَقَالَ مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ: لَا نفي على النِّسَاء، وروى مثله عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالُوا: لِأَنَّهَا عَورَة وَفِي نَفيهَا تَضْييع لَهَا وتعريض للفتنة، وَلِهَذَا نهيت عَن المسافرة إلَاّ مَعَ محرم.
وَأما العَبْد وَالْأمة ففيهما ثَلَاثَة أَقْوَال للشَّافِعِيّ: أَحدهمَا: يغرب كل وَاحِد مِنْهُمَا سنة لظَاهِر الحَدِيث، وَبِه قَالَ الثَّوْريّ وَأَبُو ثَوْر وَدَاوُد وَابْن جرير. وَالثَّانِي: يغرب نصف سنة، وَهَذَا أصح الْأَقْوَال. وَالثَّالِث: لَا يغرب الْمَمْلُوك أصلا، وَبِه قَالَ الْحسن وَحَمَّاد وَمَالك وَأحمد وَإِسْحَاق.
وَفِيه: أَن الْكفَّار مخاطبون بِفُرُوع الشَّرْع، قَالَه النَّوَوِيّ. قلت: فِيهِ: اخْتِلَاف بَين الْعلمَاء على مَا عرف فِي مَوْضِعه. وَفِيه: أَن الْكفَّار إِذا تحاكموا إِلَيْنَا حكم القَاضِي بَينهم بِحكم شرعنا. فَإِن قلت: كَيفَ رجم اليهوديان أبِالْبَيِّنة أم بِالْإِقْرَارِ؟ قلت: الظَّاهِر أَنه بِالْإِقْرَارِ، وَقد جَاءَ فِي (سنَن أبي دَاوُد) وَغَيره أَنه شهد عَلَيْهِمَا أَرْبَعَة أَنهم رَأَوْا ذكره فِي فرجهَا، فَإِن كَانَ الشُّهُود مُسلمين فَظَاهر، وَإِن كَانُوا كفَّارًا فَلَا اعْتِبَار بِشَهَادَتِهِم، وَيتَعَيَّن أَنَّهُمَا أقرا بِالزِّنَا.
١٦ - (بابُ مَا يُكْرَهُ مِنِ اتِّخَاذِ المَسَاجِدِ عَلَى القُبُورِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كَرَاهِيَة اتِّخَاذ الْمَسَاجِد على الْقُبُور. فَإِن قلت: يَأْتِي بعد ثَمَانِيَة أَبْوَاب: بَاب بِنَاء الْمَسْجِد على الْقَبْر، فَمَا وَجه هذَيْن الْبَابَيْنِ؟ قلت: وَجه ذَلِك أَنَّهُمَا فِي الحكم سَوَاء، غير أَنه صرح بِالْكَرَاهَةِ فِي تَرْجَمَة هَذَا الْبَاب، وَاكْتفى هُنَاكَ بِدلَالَة حَدِيث الْبَاب على الْكَرَاهَة، وَقيل: الاتخاذ أَعم من الْبناء، فَلذَلِك أفرده بالترجمة، ولفظها يَقْتَضِي أَن بعض الاتخاذ لَا يكره، فَكَأَنَّهُ يفصل بَين مَا إِذا ترَتّب على الاتخاذ مفْسدَة أم لَا. قلت: لَا نسلم أَن لَفظهَا يَقْتَضِي أَن بعض الاتخاذ لَا يكره، وَدَعوى الْعُمُوم بَين الاتخاذ وَالْبناء غير صَحِيحَة.
وَلَمَّا ماتَ الحَسَنُ بنُ الحَسَنِ بنِ عَلِيٍّ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم ضَرَبَتِ امْرَأتُهُ القُبَّةَ عَلَى قَبْرِهِ سَنَةً ثُمَّ رُفِعَتْ فَسَمِعُوا صائِحا يَقُولُ ألَا هَلْ وَجَدُوا مَا فَقَدُوا فأجابَهُ الآخَرُ بَلْ يَئِسُوا فانْقَلَبُوا
مُطَابقَة هَذَا للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن هَذِه الْقبَّة المضروبة لم تخل عَن الصَّلَاة فِيهَا، واستلزم ذَلِك اتِّخَاذ الْمَسْجِد عِنْد الْقَبْر، وَقد يكون الْقَبْر فِي جِهَة الْقبْلَة فتزداد الْكَرَاهَة. وَقَالَ ابْن بطال: ضربت الْقبَّة على الْحسن وسكنت فِيهَا وَصليت فِيهَا فَصَارَت كالمسجد، وَأورد البُخَارِيّ ذَلِك دَلِيلا على الْكَرَاهَة، وَكره أَحْمد أَن يضْرب على الْقَبْر فسطاطا. وَأوصى إِبْرَاهِيم مرّة أَن لَا تضربوا عَليّ فسطاطا. وَقَالَ ابْن حبيب: ضربه على قبر الْمَرْأَة أفضل من ضربه على قبر الرجل، وَضرب عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على قبر زَيْنَب بنت جحش، وَقَالَ ابْن التِّين: وَمِمَّنْ كره ضربه على قبر الرجل ابْن عمر وَأَبُو سعيد وَابْن الْمسيب، وَضربت عَائِشَة على قبر أَخِيهَا فَنَزَعَهُ ابْن عمر، وضربه مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة على قبر ابْن عَبَّاس، وَقَالَ ابْن حبيب: أرَاهُ فِي الْيَوْم واليومين وَالثَّلَاثَة وَاسِعًا إِذا خيف من نبش أَو غَيره، وَالْحسن بن الْحسن بِلَفْظ التَّكْبِير فيهمَا ابْن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، أحد أَعْيَان بني هَاشم فضلا وخبرا. مَاتَ سنة سبع وَتِسْعين، وَامْرَأَته فَاطِمَة بنت حُسَيْن بن عَليّ، وَهِي الَّتِي حَلَفت لَهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute