فَلَو كَانَ هَذَا شعرًا لَكَانَ خلاف قَوْله تَعَالَى: {وَمَا علمناه الشّعْر وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} (يس: ٩٦) . وَالله يتعالى أَن يَقع شَيْء من خَبره أَن يُوجد على خلاف مَا أخبر بِهِ، وَوُقُوع الْكَلَام الْمَوْزُون فِي النَّادِر من غير قصد لَيْسَ بِشعر، لِأَن ذَلِك غير مُمْتَنع على أحد من الْعَامَّة، والباعة، أَن يَقع لَهُ كَلَام مَوْزُون، فَلَا يكون بذلك شَاعِرًا مثل قَوْلهم:
(إسقني فِي الكوزِ مَاء يَا فلَان ... واسرِجِ الْبَغْل وجئني بِالطَّعَامِ)
فَهَذَا الْقدر لَيْسَ بِشعر، وَالرجز لَيْسَ بِشعر، قَالَه القَاضِي أَبُو بكر بن الطّيب وَغَيره، وَقَالَ ابْن التِّين: هَذَا الشّعْر لِابْنِ رَوَاحَة، وَفِيه نظر، وَقيل: لما دَعَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للوليد بن الْوَلِيد، بَاعَ مَاله بِالطَّائِف وَهَاجَر على رجلَيْهِ إِلَى الْمَدِينَة، فَقَدمهَا وَقد تقطعت رجلَانِ وأصابعه، فَقَالَ:
(هَل أَنْت إلَاّ اصبع دميت ... وَفِي سَبِيل الله مَا لقِيت)
(يَا نفس إِن لَا تقتلي تموتي)
وَمَات فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قلت: الْوَلِيد هَذَا أَخُو خَالِد بن الْوَلِيد، سيف الله، وَقَالَ أَبُو عمر: قَالَ مُصعب: شهد مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عمْرَة الْقَضِيَّة، وَكتب إِلَى أَخِيه خَالِد، وَكَانَ خَالِد خرج من مَكَّة فأراً لِئَلَّا يرى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه بِمَكَّة، كَرَاهِيَة لِلْإِسْلَامِ وَأَهله، فَسَأَلَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْوَلِيد، وَقَالَ: لَو أَتَانَا خَالِد لأكرمناه، وَمَا مثله سقط عَلَيْهِ الْإِسْلَام فِي غَفلَة، فَكتب بذلك الْوَلِيد إِلَى أَخِيه خَالِد، فَوَقع الْإِسْلَام فِي قلب خَالِد، وَكَانَ سَبَب هجرته.
٠١ - (بابُ مَنْ يُجْرَحُ فِي سَبيلِ الله عَزَّ وَجَلَّ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل من يجرح فِي سَبِيل الله، ويجرح، على صِيغَة الْمَجْهُول من الْمُضَارع.
٣٠٨٢ - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ أبِي الزِّنَادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ والَّذِي نَفْسِي بِيدِهِ لَا يُكْلَمُ أحَدٌ فِي سَبِيلِ الله وَالله أعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ إلَاّ جاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ واللَّوْنُ لَوْنُ الدَمِ والرِّيحُ رِيحُ المِسْكِ.
(انْظُر الحَدِيث ٧٣٢ وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لَا يكلم أحد) إِلَى آخِره، لِأَن الْكَلم هُوَ الجرخ على مَا نذكرهُ.
وَهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه قد مر غير مرّة، وَأَبُو الزِّنَاد، بالزاي وَالنُّون: عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز، والْحَدِيث مضى فِي كتاب الطَّهَارَة فِي: بَاب مَا يَقع من النَّجَاسَات فِي السّمن وَالْمَاء، وَلَكِن بِغَيْر هَذَا الْوَجْه، وَالْمعْنَى وَاحِد.
قَوْله: (لَا يكلم) ، على صِيغَة الْمَجْهُول من الْكَلم وَهُوَ الْجرْح. قَوْله: (فِي سَبِيل الله) ، يُرِيد بِهِ الْجِهَاد وَيدخل فِيهِ كل من جرح فِي ذَات الله وكل مَا دَافع فِيهِ الْمَرْء بِحَق فأصيب، فَهُوَ مُجَاهِد. قَوْله: (وَالله أعلم بِمن يكلم فِي سَبيله) ، جملَة مُعْتَرضَة أَشَارَ بهَا إِلَى التَّنْبِيه على شَرْطِيَّة الْإِخْلَاص فِي نيل هَذَا الثَّوَاب. قَوْله: (واللون) ، الْوَاو فِيهِ للْحَال، وَكَذَا فِي قَوْله: وَالرِّيح.
وَفِيه: أَن الشَّهِيد يبْعَث فِي حَالَته وهيئته الَّتِي قبض عَلَيْهَا، وَالْحكمَة فِيهِ أَن يكون مَعَه شَاهد فضيلته ببذله نَفسه فِي طَاعَة الله تَعَالَى. وَفِيه: أَن الشَّهِيد يدْفن بدمائه وثيابه وَلَا يزَال عَنهُ الدَّم بِغسْل وَلَا غَيره ليجيء يَوْم الْقِيَامَة كَمَا وصف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ نظر، لِأَنَّهُ لَا يلْزم من غسل الدَّم فِي الدُّنْيَا أَن لَا يبْعَث كَذَلِك. قلت: فِي نظره نظر، لِأَن أحدا مَا ادّعى الْمُلَازمَة، بل المُرَاد أَن لَا تَتَغَيَّر هَيئته الَّتِي مَاتَ عَلَيْهَا، وَفِيه: دلَالَة أَن الشَّيْء إِذا حَال عَن حَالَة إِلَى غَيرهَا كَانَ الحكم إِلَى الَّذِي حَال إِلَيْهِ، وَمِنْه المَاء تحل بِهِ نَجَاسَة، فغيرت أحد أَوْصَافه يُخرجهُ عَن المَاء الْمُطلق، وَمِنْه إِذا استحالت الْخمر إِلَى الْخلّ أَو بِالْعَكْسِ.
١١ - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إلَاّ إحْدَى الحسْنَيَيْنِ} (التَّوْبَة: ٢٥) .)
أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر قَول الله تَعَالَى، لِأَن فِيهِ معنى: الْحَرْب سِجَال، لِأَن المُرَاد من إِحْدَى الحسنيين إِمَّا الشَّهَادَة أَو الظفر بالكفار، قَالَه ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وقادة وَآخَرُونَ، وَذَلِكَ أَنا إِذا قابلنا الْكفَّار وَوَقع بَيْننَا وَبينهمْ حروب، فَإِن غلبنا وظفرنا بهم تكون لنا الْغَنِيمَة وَالْأَجْر، وَإِن كَانَ عَكسه تكون لنا الشَّهَادَة، وَهَذَا بِعَيْنِه، كَون الْحَرْب سجالاً. قَوْله: {قل هَل تربصون} (التَّوْبَة: ٢٥) . أَي: قل يَا مُحَمَّد! هَل تنتظرون بِنَا إلَاّ إِحْدَى الحسنيين؟ وهما: الظفر أَو الشَّهَادَة؟