قَالُوا بِوُجُوب الْعقَاب للعاصي وَأجِيب: بِالْمَنْعِ لِأَن مَعْنَاهُ: حَقّهمَا أَن يَكُونَا فِي النَّار، وَقد يعْفُو الله عَنهُ، وَقد مر تَحْقِيقه عَن قريب. وَمِنْهَا مَا قيل: لِمَ أَدخل الْحِرْص على الْقَتْل وَهُوَ صَغِيرَة فِي سلك الْقَتْل وَهُوَ كَبِيرَة؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ أدخلهما فِي سلك وَاحِد فِي مُجَرّد كَونهمَا سَببا لدُخُول النَّار فَقَط، وَإِن تَفَاوتا صغرا وكبرا وَغير ذَلِك. وَمِنْهَا مَا قيل: إِنَّمَا سمى الله الطَّائِفَتَيْنِ فِي الْآيَتَيْنِ: مُؤمنين، وسماهما النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، فِي الحَدِيث: مُسلمين، حَال الالتقاء لَا حَال الْقِتَال وَبعده وَأجِيب: بِأَن دلَالَة الْآيَة ظَاهِرَة، فَإِن فِي قَوْله تَعَالَى: {فأصلحوا بَين أخويكم} (لُقْمَان: ١٣) سماهما الله أَخَوَيْنِ وَأمر بالاصلاح بَينهمَا، وَلِأَنَّهُمَا عاصيان قبل الْقِتَال، وَهُوَ من حِين سعيا إِلَيْهِ وقصداه، وَأما الحَدِيث فَمَحْمُول على معنى الْآيَة، وَالله أعلم.
٢٣ - (بَاب ظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ)
الْكَلَام فِيهِ على وَجْهَيْن. الأول: وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ أَن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول هُوَ أَن الله تَعَالَى سمى الْبُغَاة مُؤمنين، وَلم ينف عَنْهُم اسْم الْإِيمَان مَعَ كَونهم عصاة، وَأَن الْمعْصِيَة لَا تخرج صَاحبهَا عَن الْإِيمَان، وَلَا شكّ أَن الْمعْصِيَة ظلم، وَالظُّلم فِي ذَاته مُخْتَلف، وَالْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب الْإِشَارَة إِلَى أَنْوَاع الظُّلم حَيْثُ قَالَ: ظلم دون ظلم، وَقَالَ ابْن بطال: مَقْصُود الْبَاب أَن تَمام الْإِيمَان بِالْعَمَلِ، وَأَن الْمعاصِي ينقص بهَا الْإِيمَان وَلَا تخرج صَاحبهَا إِلَى كفر، وَالنَّاس مُخْتَلفُونَ فِيهِ على قدر صغر الْمعاصِي وكبرها.
الثَّانِي: قَوْله: (بَاب) لَا يعرب إلَاّ بِتَقْدِير مُبْتَدأ قبله، لأَنا قد قُلْنَا غير مرّة إِن الْإِعْرَاب لَا يكون إلَاّ بعد التَّرْكِيب، وَلَا يُضَاف إِلَى مَا بعده، وَالتَّقْدِير فِي الْحَقِيقَة: هَذَا بَاب يبين فِيهِ ظلم دون ظلم، وَهَذَا لفظ أثر رَوَاهُ أَحْمد فِي كتاب الْإِيمَان من حَدِيث عَطاء بن أبي رَبَاح وَغَيره، أَخذه البُخَارِيّ وَوَضعه تَرْجَمَة، ثمَّ رتب عَلَيْهِ الحَدِيث الْمَرْفُوع. وَلَفظه: دون، إِمَّا بِمَعْنى: غير، يَعْنِي: أَنْوَاع الظُّلم مُخْتَلفَة مُتَغَايِرَة؛ وَإِمَّا بِمَعْنى: الْأَدْنَى، يَعْنِي: بَعْضهَا أَشد فِي الظلمية وَسُوء عَاقبَتهَا.
٣٢ - حدّثنا أبُو الوَلِيدِ قَالَ حدّثنا شُعْبَةُ ح قَالَ وحدّثني بِشْرٌ قَالَ حدّثنا مُحَمَّدٌ عَن شُعْبَةَ عَن سُلَيْمَانَ عَن إبْراهِيمَ عَن عَلْقَمَةَ عَن عبدِ اللَّهِ قالَ لَمَّا نَزَلَت الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمانَهُمْ بِظُلْمٍ} قَالَ أصحابُ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ فأنْزَلَ {اللَّهُ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه لما علم أَن الظُّلم على أَنْوَاع، وَأَن بعض أَنْوَاع الظُّلم كفر وَبَعضهَا لَيْسَ بِكفْر، فَيعلم من ذَلِك ضَرُورَة أَن بَعْضهَا دون بعض، وَأخرج هَذَا الحَدِيث من طَرِيقين إِحْدَاهمَا: عَن أبي الْوَلِيد عَن شُعْبَة عَن سُلَيْمَان عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله. وَالْأُخْرَى: عَن بشر بن خَالِد عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر عَن شُعْبَة عَن سُلَيْمَان عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله. فَإِن قلت: الحَدِيث عَال فِي الطَّرِيق الأولى لِأَن رجالها خَمْسَة، وَرِجَال الثَّانِيَة سِتَّة، فلِمَ لم يكتف بِالْأولَى؟ قلت: إِنَّمَا أخرجه بِالطَّرِيقِ الثَّانِيَة أَيْضا لكَون مُحَمَّد بن جَعْفَر أثبت النَّاس فِي شُعْبَة، وَأَرَادَ بِهَذَا التَّنْبِيه عَلَيْهِ. فَإِن قلت: اللَّفْظ الَّذِي سَاقه لِمَنْ من شيخيه؟ قلت: اللَّفْظ لبشر بن خَالِد. وَكَذَلِكَ أخرجه النَّسَائِيّ عَنهُ، وَتَابعه ابْن أبي عدي عَن شُعْبَة، وَهُوَ عِنْد البُخَارِيّ فِي تَفْسِير الْأَنْعَام. وَأما لفظ ابْن الْوَلِيد فساقه البُخَارِيّ فِي قصَّة لُقْمَان بِلَفْظ: (أَيّنَا لم يلبس إيمَانه بظُلْم) ؟ وَزَاد فِيهِ أَبُو نعيم فِي (مستخرجه) من طَرِيق سُلَيْمَان بن حَرْب عَن شُعْبَة بعد قَوْله: {إِن الشّرك لظلم عَظِيم} (لُقْمَان: ١٣) فطابت أَنْفُسنَا.
بَيَان رِجَاله: وهم ثَمَانِيَة. الأول: أَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ الْبَاهِلِيّ الْبَصْرِيّ، وَقد مر ذكره. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج، وَقد مر ذكره أَيْضا. الثَّالِث: بشر، بِكَسْر الْبَاء وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة، ابْن خَالِد العسكري أَبُو مُحَمَّد الفارض، روى عَنهُ البُخَارِيّ وَمُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ، وَقَالَ: ثِقَة، وَمُحَمّد بن يحيى بن مَنْدَه وَمُحَمّد بن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة. توفّي سنة ثَلَاث وَخمسين وَمِائَتَيْنِ. الرَّابِع: مُحَمَّد بن جَعْفَر الْهُذلِيّ، مَوْلَاهُم، الْبَصْرِيّ صَاحب الكراديس الْمَعْرُوف بغندر، وَسمع السفيانين وَشعْبَة وجالسه نَحوا من عشْرين سنة، وَكَانَ شُعْبَة زوج أمه، روى عَنهُ أَحْمد وَعلي بن الْمَدِينِيّ وَبُنْدَار وَخلق كثير، صَامَ خمسين سنة يَوْمًا وَيَوْما، وَقَالَ يحيى بن معِين: كَانَ من أصح النَّاس كتابا. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: صَدُوق، وَهُوَ فِي شُعْبَة: ثِقَة، وغندر لقب لَهُ لقبه بِهِ ابْن جريج لما قدم الْبَصْرَة، وَحدث عَن الْحسن؟ فَجعل مُحَمَّد يكثر التشغيب عَلَيْهِ، فَقَالَ: أسكت يَا غنْدر. وَأهل الْحجاز يسمون المشغب: غندرا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute