هَذَا تَعْلِيل لقَوْله: فَهُوَ جَائِز، قيل: فِيهِ نظر، لِأَن غَايَة مَا ذكر عَن عمر هُوَ أَن كل من ولي الْوَقْف أُبِيح لَهُ التَّنَاوُل، وَلَا يلْزم من ذَلِك أَن كل أحد يسوغ لَهُ أَن يتَوَلَّى الْوَقْف الْمَذْكُور، بل الْوَقْف لَا بُد لَهُ من متولٍ. وَأجِيب: بِأَن عمر لما وقف ثمَّ شَرط لم يَأْمُرهُ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن يُخرجهُ من يَده، فَكَانَ سُكُوته عَن ذَلِك دَالا على صِحَة الْوَقْف وَإِن لم يقبضهُ الْمَوْقُوف عَلَيْهِ.
قَالَ النبيُّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي طَلْحَةَ أراى أنْ تَجْعَلَها فِي الأقْرَبِينَ فَقَالَ أفْعَلُ فقَسَمَها فِي أقَارِبِهِ وبَني عَمِّهِ
أَرَادَ بِهَذَا أَيْضا الِاحْتِجَاج على عدم اشْتِرَاط الْقَبْض فِي جَوَاز الْوَقْف، وَهَذَا قد تقدم مَوْصُولا قَرِيبا. قَالَ الدَّاودِيّ: مَا اسْتدلَّ بِهِ البُخَارِيّ على صِحَة الْوَقْف قبل الْقَبْض من قصَّة عمر وَأبي طَلْحَة حمل للشَّيْء على ضِدّه وتمثيله بِغَيْر جنسه وَدفع للظَّاهِر عَن وَجهه، لِأَنَّهُ هُوَ روى أَن عمر دفع الْوَقْف لابنته، وَأَن أَبَا طَلْحَة دفع صدقته إِلَى أبي بن كَعْب وَحسان. وَأجِيب بِأَن البُخَارِيّ: إِنَّمَا أَرَادَ أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أخرج عَن أبي طَلْحَة ملكه بِمُجَرَّد قَوْله:(هِيَ لله صَدَقَة) ، وَبِهَذَا يَقُول مَالك: إِن الصَّدَقَة تلْزم بالْقَوْل، وَإِن كَانَ يَقُول: إِنَّهَا لَا تتمّ إلَاّ بِالْقَبْضِ، ونوزع فِي ذَلِك بِاحْتِمَال أَنَّهَا خرجت من يَد أبي طَلْحَة، وَاحْتِمَال أَنَّهَا استمرت فَلَا دلَالَة فِيهَا، وَدفع بِأَن أَبَا طَلْحَة أطلق صَدَقَة أرضه وفوض إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مصرفها فَلَمَّا قَالَ لَهُ:(أرى أَن تجعلها فِي الْأَقْرَبين) ففوض لَهُ قسمتهَا بَينهم، صَار كَأَنَّهُ أقرها فِي يَده بعد أَن مَضَت الصَّدَقَة. قلت: وَفِي نفس الحَدِيث: أَن الَّذِي تولى قسمتهَا هُوَ أَبُو طَلْحَة بِنَفسِهِ، وَالنَّبِيّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عين لَهُ جِهَة الْمصرف، لكنه أجمل لِأَنَّهُ قَالَ:(فِي الْأَقْرَبين) ، وَهَذَا مُجمل، وَلما لم يُمكن لَهُ أَن يقسمها على الْأَقْرَبين كلهم لكثرتهم وانتشارهم فَقَسمهَا على بَعضهم مِمَّن اخْتَار مِنْهُم.