للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

لَا يحْتَاج إِلَى قبض الْغَيْر، وَهُوَ قَول الْجُمْهُور مِنْهُم الشَّافِعِي وَأَبُو يُوسُف. وَقَالَت طَائِفَة: لَا يَصح الْوَقْف حَتَّى يُخرجهُ عَن يَده، ويقبضه غَيره وَبِه قَالَ ابْن أبي ليلى وَمُحَمّد بن الْحسن وَحجَّة الْجُمْهُور أَن عمر وعلياً وَفَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، أوقفوا أوقافاً وأمسكوها بِأَيْدِيهِم، وَكَانُوا يصرفون الِانْتِفَاع مِنْهَا فِي وُجُوه الصَّدَقَة، فَلم تبطل. وَاحْتج الطَّحَاوِيّ أَيْضا بِأَن الْوَقْف شَبيه بِالْعِتْقِ، لإشتراكهما فِي أَنَّهُمَا تمْلِيك لله تَعَالَى، فَينفذ بالْقَوْل الْمُجَرّد عَن الْقَبْض، وَيُفَارق الْهِبَة، فَإِنَّهَا تمْلِيك لآدَمِيّ، فَلَا يتمَّ إلَاّ بِالْقَبْضِ.

لأنَّ عُمرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أوْقَفَ وَقَالَ لَا جُنَاحَ علَى منْ ولِيَهُ أنْ يأكُلَ ولَمْ يخُصَّ إنْ ولِيَهُ عُمرُ أوْ غَيْرُهُ

هَذَا تَعْلِيل لقَوْله: فَهُوَ جَائِز، قيل: فِيهِ نظر، لِأَن غَايَة مَا ذكر عَن عمر هُوَ أَن كل من ولي الْوَقْف أُبِيح لَهُ التَّنَاوُل، وَلَا يلْزم من ذَلِك أَن كل أحد يسوغ لَهُ أَن يتَوَلَّى الْوَقْف الْمَذْكُور، بل الْوَقْف لَا بُد لَهُ من متولٍ. وَأجِيب: بِأَن عمر لما وقف ثمَّ شَرط لم يَأْمُرهُ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن يُخرجهُ من يَده، فَكَانَ سُكُوته عَن ذَلِك دَالا على صِحَة الْوَقْف وَإِن لم يقبضهُ الْمَوْقُوف عَلَيْهِ.

قَالَ النبيُّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي طَلْحَةَ أراى أنْ تَجْعَلَها فِي الأقْرَبِينَ فَقَالَ أفْعَلُ فقَسَمَها فِي أقَارِبِهِ وبَني عَمِّهِ

أَرَادَ بِهَذَا أَيْضا الِاحْتِجَاج على عدم اشْتِرَاط الْقَبْض فِي جَوَاز الْوَقْف، وَهَذَا قد تقدم مَوْصُولا قَرِيبا. قَالَ الدَّاودِيّ: مَا اسْتدلَّ بِهِ البُخَارِيّ على صِحَة الْوَقْف قبل الْقَبْض من قصَّة عمر وَأبي طَلْحَة حمل للشَّيْء على ضِدّه وتمثيله بِغَيْر جنسه وَدفع للظَّاهِر عَن وَجهه، لِأَنَّهُ هُوَ روى أَن عمر دفع الْوَقْف لابنته، وَأَن أَبَا طَلْحَة دفع صدقته إِلَى أبي بن كَعْب وَحسان. وَأجِيب بِأَن البُخَارِيّ: إِنَّمَا أَرَادَ أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أخرج عَن أبي طَلْحَة ملكه بِمُجَرَّد قَوْله: (هِيَ لله صَدَقَة) ، وَبِهَذَا يَقُول مَالك: إِن الصَّدَقَة تلْزم بالْقَوْل، وَإِن كَانَ يَقُول: إِنَّهَا لَا تتمّ إلَاّ بِالْقَبْضِ، ونوزع فِي ذَلِك بِاحْتِمَال أَنَّهَا خرجت من يَد أبي طَلْحَة، وَاحْتِمَال أَنَّهَا استمرت فَلَا دلَالَة فِيهَا، وَدفع بِأَن أَبَا طَلْحَة أطلق صَدَقَة أرضه وفوض إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مصرفها فَلَمَّا قَالَ لَهُ: (أرى أَن تجعلها فِي الْأَقْرَبين) ففوض لَهُ قسمتهَا بَينهم، صَار كَأَنَّهُ أقرها فِي يَده بعد أَن مَضَت الصَّدَقَة. قلت: وَفِي نفس الحَدِيث: أَن الَّذِي تولى قسمتهَا هُوَ أَبُو طَلْحَة بِنَفسِهِ، وَالنَّبِيّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عين لَهُ جِهَة الْمصرف، لكنه أجمل لِأَنَّهُ قَالَ: (فِي الْأَقْرَبين) ، وَهَذَا مُجمل، وَلما لم يُمكن لَهُ أَن يقسمها على الْأَقْرَبين كلهم لكثرتهم وانتشارهم فَقَسمهَا على بَعضهم مِمَّن اخْتَار مِنْهُم.

٤١ - (بابٌ إذَا قَالَ دارِي صَدَقَةٌ لله ولَمْ يُبَيِّنْ لِلْفُقَرَاءِ أوْ غَيْرِهِمْ فَهْوَ جائزٌ ويَضَعُها فِي الأقرَبِينَ أوْ حيْثُ أرادَ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: إِذا قَالَ شخص: دَاري هَذِه صَدَقَة لله، وَالْحَال أَنه لم يبين، يَعْنِي: هَل هِيَ على الْفُقَرَاء أَو غَيرهم، فَهُوَ جَائِز يَعْنِي: يتم وَقفه، فَإِن شَاءَ يَضَعهَا فِي أَقَاربه أَو حَيْثُ شَاءَ من الْجِهَات. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِذا قَالَ الرجل: أرضي هَذِه صَدَقَة، وَلم يزدْ على هَذَا شَيْئا أَنه يَنْبَغِي لَهُ أَن يتَصَدَّق بأصلها على الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين، أَو يَبِيعهَا وَيتَصَدَّق بِثمنِهَا على الْمَسَاكِين، وَلَا يكون وَقفا، وَلَو مَاتَ كَانَ جَمِيع ذَلِك مِيرَاثا بَين ورثته على كتاب الله تَعَالَى، وكل صَدَقَة لَا تُضَاف إِلَى أحد فَهِيَ للْمَسَاكِين.

قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي طَلْحَةَ حينَ قَالَ أحَبُّ أمْوَالِي إلَيَّ بِيرُحاءَ وأنَّها صدَقَةٌ لله فأجازَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذالِكَ

أَشَارَ بِهَذَا إِلَى الِاحْتِجَاج فِيمَا ذهب إِلَيْهِ من جَوَاز وقف من قَالَ: دَاري هَذِه صَدَقَة، وَسكت عَلَيْهِ، وَلم يبين مصرفاً

<<  <  ج: ص:  >  >>