تَلا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الله عِنْده علم السَّاعَة) الْآيَة.
قَوْله: (مِفْتَاح الْغَيْب) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني (مفاتح الْغَيْب) ، ذكر الطَّبَرَانِيّ أَن: المفاتيح جمع مِفْتَاح، والمفاتح جمع مفتح، وهما فِي الأَصْل كل مَا يتوسل بِهِ إِلَى اسْتِخْرَاج المغلقات الَّتِي يتَعَذَّر الْوُصُول إِلَيْهَا، وَهُوَ إِمَّا اسْتِعَارَة مكنية بِأَن يَجْعَل الْغَيْب كالمخزن المستوثق بالإغلاق فيضاف إِلَيْهِ مَا هُوَ من خَواص المخزن الْمَذْكُور، وَهُوَ الْمِفْتَاح وَهُوَ الِاسْتِعَارَة الترشيحية، وَيجوز أَن يكون اسْتِعَارَة مصرحة بِأَن يَجْعَل مَا يتَوَصَّل بِهِ إِلَى معرفَة الْغَيْب للمخزون، وَيكون لفظ الْغَيْب قرينَة لَهُ، والغيب مَا غَابَ عَن الْخلق، وَسَوَاء كَانَ محصلاً فِي الْقُلُوب أَو غير مُحَصل، وَلَا غيب عِنْد الله عز وَجل.
وَهَهُنَا أسئلة: الأول: أَن الغيوب الَّتِي لَا يعلمهَا إِلَّا الله كَثِيرَة، وَلَا يعلم مبلغها إِلَّا الله تَعَالَى، وَقَالَ الله تَعَالَى: {وَمَا يعلم جنود رَبك إلاّ هُوَ} (المدثر: ١٣) . فَمَا وَجه التَّخْصِيص بالخمس؟ وَأجِيب: بأوجه. . الأول: أَن التَّخْصِيص بِالْعدَدِ لَا يدل على نفي الزَّائِد، وَالثَّانِي: أَن ذكر هَذَا الْعدَد فِي مُقَابلَة مَا كَانَ الْقَوْم يَعْتَقِدُونَ أَنهم يعْرفُونَ من الْغَيْب هَذِه الْخمس. وَالثَّالِث: لأَنهم كَانُوا يسألونه عَن هَذِه الْخمس. وَالرَّابِع: أَن أُمَّهَات الْأُمُور هَذِه، لِأَنَّهَا إِمَّا أَن تتَعَلَّق بِالآخِرَة وَهُوَ علم السَّاعَة، وَإِمَّا بالدنيا، وَذَلِكَ إِمَّا مُتَعَلق بالجماد أَو بِالْحَيَوَانِ. وَالثَّانِي إِمَّا بِحَسب مبدأ وجوده أَو بِحَسب معاده أَو بِحَسب معاشه.
السُّؤَال الثَّانِي: من أَيْن يعلم مِنْهُ علم السَّاعَة، وَقد ذكر الله الْخَمْسَة حَيْثُ قَالَ: {إِن الله عِنْده علم السَّاعَة} (لُقْمَان: ٤٣) . وَأجِيب: بِأَن الأول من هَذِه إِشَارَة إِلَيْهِ إِذْ يحْتَمل وُقُوع أَشْرَاط السَّاعَة فِي الْغَد.
السُّؤَال الثَّالِث: أَنه قَالَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ نفس، وَفِي ثَلَاثَة مَوَاضِع: أحد وَأجِيب: بِأَن النَّفس هِيَ الكاسبة وَهِي المائتة، قَالَ تَعَالَى: {كل نفس بِمَا كسبت رهينة} (المدثر: ٨٣) . وَقَالَ تَعَالَى: {الله يتوفى الْأَنْفس حِين مَوتهَا} (الزمر: ٢٤) . فَلَو قيل بدلهَا لفظ أحد، فِيهَا لاحتمل أَن يفهم مِنْهُ لَا يعلم أحد مَاذَا تكسب نَفسه أَو بِأَيّ أَرض تَمُوت نَفسه. فتفوت الْمُبَالغَة الْمَقْصُودَة، وَهِي: أَن النَّفس لَا تعرف حَال نَفسهَا لَا حَالا ومآلاً وَإِذ لم يكن لَهَا طَرِيق إِلَى مَعْرفَتهَا فَكَانَ إِلَى عدم معرفَة مَا عَداهَا أولى.
السُّؤَال الرَّابِع: مَا الْفرق بَين الْعلم والدراية؟ وَأجِيب: بِأَن الدِّرَايَة أخص لِأَنَّهَا علم باحتيال، أَي أَنَّهَا لَا تعرف وَإِن أعملت حيلها.
السُّؤَال الْخَامِس: لم عدل عَن لفظ: الْقُرْآن، وَهُوَ يدْرِي إِلَى لفظ: يعلم فيماذا تكسب غَدا؟ وَأجِيب: لإِرَادَة زِيَادَة الْمُبَالغَة، إِذْ نفي الْعَام مُسْتَلْزم لنفي الْخَاص بِدُونِ الْعَكْس، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا تعلم أصلا سَوَاء احتالت أم لَا. وَقَالَ ابْن بطال: وَهَذَا يبطل خرص المنجمين فِي تعاطيهم علم الْغَيْب، فَمن ادّعى علم مَا أخبر الله وَرَسُوله، وَأَن الله مُنْفَرد بِعِلْمِهِ فقد كذب الله وَرَسُوله، وَذَلِكَ كفر من قَائِله، وَقَالَ الزّجاج: من ادّعى أَنه يعلم شَيْئا من هَذِه الْخمس فقد كفر بِالْقُرْآنِ الْعَظِيم.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
٦١ - (كِتَابُ الكُسُوفِ)
أَي: هَذِه أَبْوَاب فِي بَيَان أُمُور الْكُسُوف، وَفِي بعض النّسخ: كتاب الْكُسُوف، وَالْكتاب يجمع الْأَبْوَاب، وَأَصله: من كسفت حَاله أَي: تَغَيَّرت، وَهُوَ نُقْصَان الضَّوْء، وَالْأَشْهر فِي ألسن الْفُقَهَاء تَخْصِيص الْكُسُوف بالشمس والخسوف بالقمر، وَادّعى الْجَوْهَرِي أَنه الْأَفْصَح، وَقيل: هما يستعملان فيهمَا، وَبَوَّبَ لَهُ البُخَارِيّ بَابا كَمَا سَيَأْتِي. وَقيل: الْكُسُوف للقمر والخسوف للشمس، وَهُوَ مَرْدُود. وَقيل: الْكُسُوف أَوله، والخسوف آخِره، وَقَالَ اللَّيْث بن سعد: الخسوف فِي الْكل، والكسوف فِي الْبَعْض. وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً فِيمَا تقدم.
١ - (بابُ الصَّلاةِ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَشْرُوعِيَّة صَلَاة كسوف الشَّمْس، وَالْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع: الأول: أَنه لَا خلاف فِي مَشْرُوعِيَّة صَلَاة الْكُسُوف والخسوف، وأصل مشروعيتها بِالْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة. أما الْكتاب فَقَوله تَعَالَى: {وَمَا نرسل بِالْآيَاتِ إلاّ تخويفا} (الْإِسْرَاء: ٩٥) . والكسوف آيَة من آيَات الله المخوفة، وَالله تَعَالَى يخوف عباده ليتركوا الْمعاصِي ويرجعوا إِلَى طَاعَة الله الَّتِي فِيهَا فوزهم. وَأما السّنة فَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا رَأَيْتُمْ شَيْئا من هَذِه الأفزاع فافزعوا إِلَى الصَّلَاة) . وَأما الْإِجْمَاع، فَإِن الْأمة قد اجْتمعت عَلَيْهَا من غير إِنْكَار اُحْدُ. الثَّانِي: أَن سَبَب مشروعيتها هُوَ الْكُسُوف، فَإِنَّهَا تُضَاف إِلَيْهِ وتتكرر بتكرره. الثَّالِث: أَن شَرط جَوَازهَا هُوَ مَا يشْتَرط بِسَائِر الصَّلَوَات. الرَّابِع: أَنَّهَا سنة وَلَيْسَت بواجبة، وَهُوَ الْأَصَح. وَقَالَ بعض مَشَايِخنَا: إِنَّهَا وَاجِبَة لِلْأَمْرِ بهَا. وَنَصّ فِي (الْأَسْرَار) على وُجُوبهَا، وَصرح أَبُو عوَانَة أَيْضا بِوُجُوبِهَا، وَعَن مَالك أَنه: أجراها مجْرى الْجُمُعَة، وَقيل: إِنَّهَا فرض كِفَايَة