وَقَالَ زيد بن أسلم عَن ابْن سعد بن معَاذ أَنَّهَا نزلت فِي تقاول الْأَوْس والخزرج فِي شَأْن عبد الله بن أبي حِين استعذر مِنْهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على الْمِنْبَر فِي قَضِيَّة الْإِفْك وَهَذَا غَرِيب قَوْله {فَمَا لكم} يَعْنِي مَا لكم اختلفتم فِي شَأْن قوم نافقوا نفَاقًا ظَاهرا وتفرقتم فِيهِ فرْقَتَيْن وَمَا لكم لم تثبتوا القَوْل فِي كفرهم وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فئتين نصب على الْحَال كَقَوْلِك مَا لَك قَائِما قَوْله {وَالله أركسهم} أَي ردهم فِي حكم الْمُشْركين كَمَا كَانُوا قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أَي أوقفهم وأوقعهم فِي الْخَطَأ وَقَالَ قَتَادَة أهلكهم وَقَالَ السّديّ أضلهم قَوْله {بِمَا كسبوا} أَي بِسَبَب عصيانهم ومخالفتهم الرَّسُول واتباعهم الْبَاطِل {أتريدون أَن تهدوا من أضلّ الله} أَي من جعله من جملَة الضلال وقرىء ركسهم قَوْله (فَلَنْ تَجِد لَهُ نَصِيرًا) أَي لَا طَرِيق لَهُ إِلَى الْهدى وَلَا مخلص لَهُ إِلَيْهِ قَوْله " إِنَّهَا " أَي أَن الْمَدِينَة تَنْفِي الرِّجَال جمع رجل وَالْألف وَاللَّام فِيهِ للْعهد عَن شرارهم وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة الْكشميهني الدَّجَّال بِالدَّال وَالْجِيم الْمُشَدّدَة قيل هُوَ تَصْحِيف وَالْمَقْصُود من النَّفْي الْإِظْهَار والتمييز بِقَرِينَة الْمُشبه بِهِ وَفِيه من الْفِقْه أَن من عقد على نَفسه أَو على غَيره عهدا لله تَعَالَى فَلَا يَنْبَغِي لَهُ حلّه لِأَن فِي حلّه خُرُوجًا عَمَّا عقد وَفِيه أَن الارتداد عَن الْهِجْرَة من أكبر الْكَبَائِر وَلذَلِك دَعَا لَهُم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ " اللَّهُمَّ امْضِ لِأَصْحَابِي هجرتهم وَلَا تردهم على أَعْقَابهم " وَفِيه جَوَاز ضرب الْمثل وَفِيه أَن النَّفْي كَالْقَتْلِ -
٠١ - (بابٌ المَدِينَةُ تَنْفي الخَبَثَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: الْمَدِينَة تَنْفِي الْخبث أَي: تطرده وتخرجه.
٣٨٨١ - حدَّثنا عَمْرُو بنُ عَبَّاسٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الرَّحْمانِ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ مُحَمَّدِ بنِ المُنْكَدِرِ عنْ جابِرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ جاءَ أعْرَابِيٌ لِلنَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فبَايَعَهُ عَلَى الإسلامِ فَجاءَ مِنَ الْغَدِ مَحْمُوما فَقَالَ أقِلْنِي فَأبى ثَلاثَ مِرَارٍ فَقَالَ المَدِينَةُ كالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا ويَنْصَعُ طِيبُها..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (كالكير تَنْفِي خبثها) ، وَعَمْرو بن عَبَّاس بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَقد مر فِي فضل اسْتِقْبَال الْقبْلَة، وَعبد الرَّحْمَن هُوَ ابْن الْمهْدي، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَحْكَام عَن أبي نعيم، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج عَن مُحَمَّد بن بشار عَن عبد الرَّحْمَن بِهِ.
قَوْله: (عَن جَابر) ، وَقع فِي الْأَحْكَام من وَجه آخر عَن ابْن الْمُنْكَدر، قَالَ: سَمِعت جَابِرا. قَوْله: (جَاءَ أَعْرَابِي) قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي (ربيع الْأَبْرَار) : إِنَّه قيس بن أبي حَازِم، قيل: هُوَ مُشكل لِأَنَّهُ تَابِعِيّ كَبِير مَشْهُور، صَرَّحُوا بِأَنَّهُ هَاجر فَوجدَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد مَاتَ، وَفِي (الذيل) لأبي مُوسَى: فِي الصَّحَابَة قيس بن أبي حَازِم الْمنْقري، فَيحْتَمل أَن يكون هُوَ هَذَا، قَوْله: (فَبَايعهُ على الْإِسْلَام) ، من الْمُبَايعَة، وَهِي عبارَة عَن المعاقدة على الْإِسْلَام والمعاهدة، كَأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا بَاعَ مَا عِنْده مَا صَاحبه وَأَعْطَاهُ خُلَاصَة نَفسه وطاعته ودخيلة أمره. قَوْله: (محموما) ، نصب على الْحَال من: حم الرجل من الْحمى، وأحمه الله فَهُوَ مَحْمُوم، وَهُوَ من الشواذ. قَوْله: (أَقلنِي) من الْإِقَالَة أَي: أَقلنِي من الْمُبَايعَة على الْإِسْلَام. قَوْله: (فَأبى) ، أَي: امْتنع، وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (ثَلَاث مرار) يتَعَلَّق بِكُل وَاحِد من قَوْله: (فَقَالَ) ، وَقَوله: (فَأبى) وَهُوَ من تنَازع العاملين فِيهِ. قَوْله: (فَقَالَ: الْمَدِينَة) أَي: فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى آخِره. قَوْله: (ينصع) ، بِفَتْح يَاء المضارعة وَسُكُون النُّون وَفتح الصَّاد الْمُهْملَة، وَفِي آخِره عين مُهْملَة من النصوع، وَهُوَ الخلوص، والناصع الْخَالِص. قَوْله: (طيبها) ، بِكَسْر الطَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهُوَ مَرْفُوع على أَنه فَاعل. لقَوْله: (ينصع) ، لِأَن النصوع لَازم، وَهُوَ رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: ينصع، بِضَم الْيَاء وَفتح النُّون وَتَشْديد الصَّاد من التنصيع، وَقَوله: (طيبها) ، بتَشْديد الْيَاء مَفْعُوله بِالنّصب، هَكَذَا قَالَ الْكرْمَانِي: من التنصيع، وَلَكِن الظَّاهِر أَنه من الإنصاع من: بَاب الافعال، وَسَوَاء كَانَ من التنصيع أَو الإنصاع فَهُوَ مُتَعَدٍّ، فَلذَلِك نصب: طيبها. فَافْهَم. وَقَالَ الْقَزاز: قَوْله: (ينصع) لم أجد لَهُ فِي الطّيب وَجها، وَإِنَّمَا الْكَلَام: يتضوع طيبها أَي: يفوح، وَقَالَ: ويروى: (ينضخ) بضاد وخاء معجمتين، قَالَ: ويروى بحاء مُهْملَة، وَهُوَ أقل من النضخ، يَعْنِي بالضاد الْمُعْجَمَة. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي (الْفَائِق) : يبضع، بِضَم الْيَاء وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الضَّاد الْمُعْجَمَة: من أبضعة بضَاعَة إِذا دَفعهَا إِلَيْهِ، مَعْنَاهُ: أَن الْمَدِينَة تُعْطِي طيبها لمن سكنها. ورد عَلَيْهِ الصَّاغَانِي بِأَن قَالَ: وَقد خَالف الزَّمَخْشَرِيّ بِهَذَا القَوْل جَمِيع الروَاة، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الْمَشْهُور بالنُّون وَالصَّاد الْمُهْملَة. فَإِن قلت: لما قَالَ الْأَعرَابِي أَقلنِي لِمَ لَمْ يُقِلْهُ؟ قلت: لِأَنَّهُ لَا يجوز لمن أسلم أَن يتْرك الْإِسْلَام، وَلَا لمن هَاجر إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن يتْرك الْهِجْرَة وَيذْهب إِلَى وَطنه، وَهَذَا الْأَعرَابِي كَانَ مِمَّن هَاجر وَبَايع النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على الْمقَام عِنْده، قَالَ عِيَاض: وَيحْتَمل أَن بيعَته كَانَت بعد الْفَتْح وَسُقُوط الْهِجْرَة إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا بَايع على الْإِسْلَام وَطلب الْإِقَالَة فَلم يقلهُ، وَقَالَ ابْن بطال: وَالدَّلِيل على أَنه لم يرد الإرتداد عَن الْإِسْلَام أَنه لم يرد حل مَا عقده إلَاّ بموافقة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على ذَلِك، وَلَو كَانَ خُرُوجه عَن الْمَدِينَة خُرُوجًا عَن الْإِسْلَام لقَتله حِين ذَاك، وَلكنه خرج عَاصِيا. وَرَأى أَنه مَعْذُور لما نزل بِهِ من الْحمى، وَلَعَلَّه لم يعلم أَن الْهِجْرَة فرض عَلَيْهِ، وَكَانَ من الَّذين قَالَ الله تَعَالَى فيهم: {وأجدر ألَاّ يعلمُوا حُدُود مَا أنزل الله على رَسُوله} (التَّوْبَة: ٧٩) . فَإِن قلت: إِن الْمُنَافِقين قد سكنوا الْمَدِينَة وماتوا فِيهَا وَلم تنفهم؟ قلت: كَانَت الْمَدِينَة دَارهم أصلا وَلم يسكنوها بِالْإِسْلَامِ وَلَا حباله، وَإِنَّمَا سكنوها لما فِيهَا من أصل معاشهم، وَلم يرد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِضَرْب الْمثل إلَاّ من عقد الْإِسْلَام رَاغِبًا فِيهِ ثمَّ خبث قلبه.
١٠ - (بابٌ)
أَي: هَذَا بَاب قد ذكرنَا أَن هَذَا بِمَعْنى فصل، وَقد ذكرنَا أَن الْكتاب يجمع الْأَبْوَاب، والأبواب تجمع الْفُصُول، وَهَكَذَا بَاب بِلَا تَرْجَمَة فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَسقط من رِوَايَة أبي ذَر. فَإِن قلت: إِذا ذكر بَاب، هَكَذَا مُجَردا بِمَعْنى الْفَصْل فَيَنْبَغِي أَن يكون للمذكور بعده نوع تعلق بِمَا قبله. قلت: الْمَذْكُور فِيهِ حديثان عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَتعلق الحَدِيث الأول من حَيْثُ أَن الدُّعَاء بِتَضْعِيف الْبركَة وتكثيرها يَقْتَضِي تقليل مَا يضادها، فَنَاسَبَ ذَلِك نفي الْخبث، وَتعلق الحَدِيث الثَّانِي من حَيْثُ أَن حب الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للمدينة يُنَاسب طيب ذَاتهَا وَأَهْلهَا.
٥٨٨١ - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا وهْبُ بنُ جَرِيرٍ قَالَ حدَّثنا أبِي قَالَ سَمِعْتُ يُونُسَ عَن ابنِ شِهَابٍ عنْ أنسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ اللَّهُمَّ اجْعَلْ بِالمَدِينَةِ ضِعْفَيْ مَا جَعَلْتَ بِمَكَّةَ مِنَ البَرَكَةِ.
وَجه الْمُطَابقَة قد ذَكرْنَاهُ الْآن، وَأَبُو وهب هُوَ جرير بن حَازِم، وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد الْأَيْلِي، وَابْن شهَاب مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْحَج عَن زُهَيْر بن حَرْب وَإِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد كِلَاهُمَا عَن وهب.
قَوْله: (ضعْفي مَا جعلت) ، تَثْنِيَة ضعف بِالْكَسْرِ. قَالَ الْجَوْهَرِي: ضعف الشَّيْء مثله، وضعفاه مثلاه، وَقَالَ الْفُقَهَاء: ضعفه مثلاه، وضعفاه ثَلَاثَة أَمْثَاله. قَوْله: (من الْبركَة) ، أَي: كَثْرَة الْخَيْر، وَالْمرَاد بركَة الدُّنْيَا بِدَلِيل قَوْله فِي الحَدِيث الآخر: (أللهم بَارك لنا فِي صاعنا ومدنا) . فَإِن قلت: اللَّفْظ أَعم من ذَلِك، فَيَقْتَضِي أَن تكون الصَّلَاة بِالْمَدِينَةِ ضعْفي ثَوَاب الصَّلَاة بِمَكَّة؟ قلت: وَلَئِن سلمنَا عُمُوم اللَّفْظ لكنه مُجمل فبينه بقوله: (أللهم بَارك لنا فِي صاعنا ومدنا) . أَن المُرَاد الْبركَة الدُّنْيَوِيَّة، وَخص الصَّلَاة وَنَحْوهَا بِالدَّلِيلِ الْخَارِجِي. فَإِن قلت: الِاسْتِدْلَال بِهِ على تَفْضِيل الْمَدِينَة على مَكَّة ظَاهر؟ قلت: نعم ظَاهر من هَذِه الْجِهَة، وَلَكِن لَا يلْزم من حُصُول أَفضَلِيَّة الْمَفْضُول فِي شَيْء من الْأَشْيَاء ثُبُوت الْأَفْضَلِيَّة على الْإِطْلَاق، فَإِن قلت: فعلى هَذَا يلْزم أَن يكون الشَّام واليمن أفضل من مَكَّة لقَوْله فِي الحَدِيث الآخر: (أللهم بَارك لنا فِي شامنا، وأعادها ثَلَاثًا) ؟ قلت: التَّأْكِيد لَا يسْتَلْزم التكثير الْمُصَرّح بِهِ فِي حَدِيث الْبَاب، وَقَالَ ابْن حزم: لَا حجَّة فِي حَدِيث الْبَاب لَهُم، لِأَن تَكْثِير الْبركَة بهَا لَا يسْتَلْزم الْفضل فِي أُمُور الْآخِرَة، ورده القَاضِي عِيَاض بِأَن الْبركَة أَعم من أَن تكون فِي أَمر الدّين أَو الدُّنْيَا لِأَنَّهَا بِمَعْنى النَّمَاء. وَالزِّيَادَة، فَأَما فِي الْأُمُور الدِّينِيَّة فَلَمَّا يتَعَلَّق بهَا من حق الله تَعَالَى من الزكوات وَالْكَفَّارَات، وَلَا سِيمَا فِي وُقُوع