للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

حَتَّى صَار إِلَى الْبرد وَيُؤَيّد ذَلِك قَوْله: (حَتَّى وجدت برد لِسَانه على يَدي) ، وَفِي رِوَايَة: (برد لعابه) .

الثَّالِثَة: فِيهِ دَلِيل على أَن أَصْحَاب سُلَيْمَان كَانُوا يرَوْنَ الْجِنّ، وَهُوَ من دَلَائِل نبوته، وَلَوْلَا مشاهدتهم إيَّاهُم لم تكن تقوم الْحجَّة لَهُ لمكانته عَلَيْهِم.

الرَّابِعَة: قَالَ ابْن بطال: رُؤْيَته للعفريت هُوَ مِمَّا خص بِهِ، كَمَا خص بِرُؤْيَة الْمَلَائِكَة. وَقد أخبر أَن جِبْرِيل لَهُ سِتّمائَة جنَاح، وَرَأى النَّبِي الشَّيْطَان فِي هَذِه اللَّيْلَة، وأقدره اعليه لتجسمه، لِأَن الْأَجْسَام مُمكن الْقُدْرَة عَلَيْهَا، وَلكنه ألْقى فِي روعه مَا وهب سُلَيْمَان فَلم ينفذ مَا قوي عَلَيْهِ من حَبسه، رَغْبَة عَمَّا أَرَادَ سُلَيْمَان الِانْفِرَاد بِهِ، وحرصاً على إِجَابَة اتعالى دَعوته. وَأما غير النَّبِي من النَّاس فَلَا يُمكن مِنْهُ وَلَا يرى أحد الشَّيْطَان على صورته غَيره لقَوْله تَعَالَى: {إِنَّه يراكم} (الْأَعْرَاف: ٧٢) الْآيَة، لكنه يرَاهُ سَائِر النَّاس إِذا تشكل فِي غير شكله، كَمَا تشكل الَّذِي طعنه الْأنْصَارِيّ حِين وجده فِي بَيته على صُورَة حَيَّة، فَقتله فَمَاتَ الرجل بِهِ، فَبين النَّبِي ذَلِك بقوله: (إِن بِالْمَدِينَةِ جناً قد أَسْلمُوا، فَإِذا رَأَيْتُمْ من هَذِه الْهَوَام شَيْئا فاذنوه ثَلَاثًا، فَإِن بدا لكم فَاقْتُلُوهُ) ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة، من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ.

ثمَّ اعْلَم أَن الْجِنّ يتصورون فِي صور شَتَّى، ويتشكلون فِي صور الْإِنْسَان والبهائم والحيات والعقارب وَالْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم وَالْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحمير، وَفِي صُورَة الطُّيُور. وَقَالَ القَاضِي أَبُو يعلى: وَلَا قدرَة للشَّيْطَان على تَغْيِير خلقتهمْ والانتقال فِي الصُّور، إِنَّمَا يجوز أَن يعلمهُمْ اكلمات وَضَربا من ضروب الْأَفْعَال إِذا فعله وَتكلم بِهِ نَقله امن صُورَة إِلَى صُورَة أُخْرَى، وَأما أَن يتَصَوَّر بِنَفسِهِ فَذَلِك محَال، لِأَن انتقالها من صُورَة إِلَى صُورَة إِنَّمَا يكون بِنَقْض البنية وتفريق الْأَجْزَاء، وَإِذا انتقضت بطلت الْحَيَاة، وَالْقَوْل فِي تشكل الْمَلَائِكَة كَذَلِك.

الْخَامِسَة: فِيهِ دَلِيل على إِبَاحَة ربط الْأَسير فِي الْمَسْجِد، وعل هَذَا بوب البُخَارِيّ الْبَاب، وَمن هَذَا قَالَ الْمُهلب: إِن فِي الحَدِيث جَوَاز ربط من خشِي هروبه بِحَق عَلَيْهِ أَو دين، والتوثق مِنْهُ فِي الْمَسْجِد أَو غَيره. فَإِن قلت: قَوْله: (وَأَرَدْت أَن أربطه) ، مَا وَجهه وَهُوَ فِي الصَّلَاة؟ قلت: يحْتَمل أَن يكون ربطه بعد تَمام الصَّلَاة، أَو يربطه بِوَجْه كَانَ شغلاً يَسِيرا فَلَا تفْسد بِهِ الصَّلَاة.

٦٧ - (بابُ الإِغْتِسَالِ إِذَا أسْلَمَ وَرَبْطِ الأَسِيرِ أَيْضاً فِي المَسْجِدِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم اغتسال الْكَافِر إِذا أسلم، وَبَيَان ربط الْأَسير فِي الْمَسْجِد، وَهَذِه التَّرْجَمَة وَقعت هَكَذَا فِي أَكثر الرِّوَايَات وَلَيْسَ فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وكريمة قَوْله: (وربط الْأَسير أَيْضا فِي الْمَسْجِد) ، وَوَقع عِنْد الْبَعْض لفظ: بَاب، بِلَا تَرْجَمَة وَالصَّوَاب هُنَا النُّسْخَة الَّتِي فِيهَا ذكر الْبَاب مُفردا بِلَا تَرْجَمَة لِأَن حَدِيث هَذَا الْبَاب من جنس حَدِيث الْبَاب الَّذِي قبله، وَلَكِن لما كَانَت بَينهمَا مُغَايرَة مَا فصل بَينهمَا بِلَفْظ: بَاب، مُفردا، وَأما قَول ابْن الْمُنِير: وَذكر هَذَا الحَدِيث فِي بَاب الْأَسير أَو الْغَرِيم يرْبط فِي الْمَسْجِد أوقع وأنص على الْمَقْصُود، لِأَن ثُمَامَة كَانَ أَسِيرًا فَربط فِي الْمَسْجِد، وَلكنه لم يذكرهُ هُنَاكَ، لِأَنَّهُ، لم يربطه. وَلم يَأْمر بربطه، فَقَوْل صادر من غير تَأمل، لِأَن ابْن إِسْحَاق صرح فِي مغازيه أَن النَّبِي، وَهُوَ الَّذِي أَمرهم بربطه، فَإِذا كَانَ كَذَلِك كَانَ حَدِيث ثُمَامَة من جنس حَدِيث العفريت، وَلَكِن لما كَانَ بَينهمَا مُغَايرَة مَا، وَهُوَ أَن النَّبِي، هم بربط العفريت بِنَفسِهِ، وَلكنه لم يربطه لمَانع ذَكرْنَاهُ، وَهَهُنَا ربطه غَيره، فَلذَلِك فصل البُخَارِيّ بَينهمَا بِلَفْظ: بَاب، مُفردا، وَهُوَ أصوب من النسختين المذكورتين، لِأَن فِي نُسْخَة الْجُمْهُور ذكر الِاغْتِسَال إِذا أسلم، وَلَيْسَ فِي حَدِيث الْبَاب ذكر لذَلِك وَلَا إِشَارَة إِلَيْهِ، وَفِي نُسْخَة الْأصيلِيّ ربط الْأَسير غير مَذْكُور، وَحَدِيث الْبَاب يُصَرح بذلك، وَأبْعد من الْكل النُّسْخَة الَّتِي ذكرهَا ابْن الْمُنِير وَهِي: بَاب ذكر الشِّرَاء وَالْبيع، وَفِيه أَبُو هُرَيْرَة: (بعث رَسُول الله خيلاً) الحَدِيث، ثمَّ قَالَ: وَجه مُطَابقَة حَدِيث ثُمَامَة للْبيع وَالشِّرَاء فِي الْمَسْجِد أَن الَّذِي تخيل الْمَنْع مُطلقًا، إِنَّمَا أَخذه من ظَاهر أَن هَذِه الْمَسَاجِد إِنَّمَا بنيت للصَّلَاة وَلذكر ا، فَبين البُخَارِيّ تَخْصِيص هَذَا الْعُمُوم بِإِجَازَة فعل غير الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد، وَهُوَ ربط ثُمَامَة، لِأَنَّهُ مَقْصُود صَحِيح، فَالْبيع كَذَلِك، انْتهى، وَلَا يخفى مَا فِيهِ من التَّكَلُّف والتعسف. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) ، بعد أَن نقل هَذَا الْكَلَام مُنْكرا عَلَيْهِ ومستبعداً وُقُوعه مِنْهُ:

وَذَاكَ لعمري قَول من لم يمارس كتاب الصَّحِيح الْمُنْتَقى فِي الْمدَارِس

<<  <  ج: ص:  >  >>