المضلة الْمُقْتَضِيَة للتباغض والمذموم مِنْهُ مَا كَانَ لغير الله تَعَالَى فَإِنَّهُ وَاجِب ويثاب فَاعله لتعظيم حق الله عز وَجل. قَوْله: (وَكُونُوا عباد الله) يَعْنِي: يَا عباد الله كونُوا إخْوَانًا يَعْنِي: اكتسبوا مَا تصيرون بِهِ إخْوَانًا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: الْمَعْنى: كونُوا كإخوان النّسَب فِي الشَّفَقَة وَالرَّحْمَة والمحبة والمواساة والمعاونة والنصيحة.
قَوْله: (وَلَا يحل لمُسلم)
إِلَى آخِره فِيهِ التَّصْرِيح بِحرْمَة الهجران فَوق ثَلَاثَة أَيَّام، وَهَذَا فِيمَن لم يجن على الدّين جِنَايَة، فَأَما من جنى عَلَيْهِ وَعصى ربه فَجَاءَت الرُّخْصَة فِي عُقُوبَته بالهجران كالثلاثة المتخلفين عَن غَزْوَة تَبُوك فَأمر الشَّارِع بهجرانهم فبقوا خمسين لَيْلَة حَتَّى نزلت تَوْبَتهمْ، وَقد آل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من نِسَائِهِ شهرا وَصعد مشْربَته وَلم ينزل إلَيْهِنَّ حَتَّى انْقَضى الشَّهْر. وَاخْتلفُوا: هَل يخرج بِالسَّلَامِ وَحده من الهجران؟ : فَقَالَت البغاددة: نعم، وَكَذَا قَول جُمْهُور الْعلمَاء: إِن الْهِجْرَة تَزُول بِمُجَرَّد السَّلَام ورده، وَبِه قَالَ مَالك فِي رِوَايَة، وَقَالَ أَحْمد: لَا يبرأ من الْهِجْرَة إلَاّ بعوده إِلَى الْحَال الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا أَولا، وَقَالَ أَيْضا: إِن كَانَ ترك الْكَلَام يُؤْذِيه لم تَنْقَطِع الْهِجْرَة بِالسَّلَامِ، وَكَذَا قَالَ ابْن الْقَاسِم.
٥٨ - (بابٌ: { (٩٤) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اجتنبوا كثيرا من الظَّن إِن بعض الظَّن إِثْم وَلَا تجسسوا} (الحجرات: ١٢)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} ... إِلَى آخِره، هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين إلَاّ أَن لفظ: بَاب، لم يَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نزلت هَذِه الْآيَة فِي رجلَيْنِ من الصَّحَابَة اغتابا سلمَان رَضِي الله عَنهُ. قَوْله: (اجتنبوا) أَي: امْتَنعُوا واحترزوا كثيرا من الظَّن. وَقَالَ سعيد بن جُبَير: هُوَ الرجل يسمع من أَخِيه كلَاما لَا يُرِيد بِهِ سوءا فيراه أَخُوهُ الْمُسلم فيظن بِهِ سوءا، وَقَالَ الزّجاج: هُوَ أَن يظنّ بِأَهْل الْخَيْر سوءا. وَقَوله: (كثيرا من الظَّن إِن بعض الظَّن إِثْم) يدل على أَنه لم ينْه عَن جَمِيع الظَّن، وَالظَّن على أَرْبَعَة أوجه: مَحْظُور ومأمور بِهِ ومباح ومندوب إِلَيْهِ.
فالمحظور: هُوَ سوء الظَّن بِاللَّه تَعَالَى وَكَذَلِكَ الظَّن بِالْمُسْلِمين الَّذين ظَاهِرهمْ عَدَالَة مَحْظُور. والمأمور بِهِ: هُوَ مَا لم ينصب عَلَيْهِ دَلِيل يُوصل إِلَى الْعلم بِهِ، وَقد تعبدنا بتنفيذ الحكم فِيهِ والاقتصار على غَالب الظَّن وإجراء الحكم وَاجِب وَذَلِكَ نَحْو مَا تعبدنا بِهِ من قبُول شَهَادَة الْعُدُول وتحري الْقبْلَة وتقويم المستهلكات وَأرش الْجِنَايَات الَّتِي لم يرد مقاديرها بتوقيف من قبل الشَّرْع، فَهَذَا ونظائره قد تعبدنا فِيهِ بغالب الظَّن. وَالظَّن الْمُبَاح: كالشك فِي الصَّلَاة إِذا كَانَ إِمَامًا، فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَمر بِالتَّحَرِّي وَالْعَمَل بغالب الظَّن فَإِنَّهُ فعله كَانَ مُبَاحا وَإِن عدل إِلَى غَيره من الْبناء على الْيَقِين جَازَ وَالظَّن الْمَنْدُوب إِلَيْهِ: كإحسان الظَّن بالأخ الْمُسلم ينْدب إِلَيْهِ ويثاب عَلَيْهِ.
وَتَفْسِير: {وَلَا تجسسوا} قد مضى.
٦٠٦٦ - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخبرنَا مالِكٌ عَنْ أبي الزِّناد عَنِ الأعْرَجِ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: أيَّاكُمْ والظَّنَّ فإنَّ الظَّنَّ أكْذَبُ الحَدِيثِ وَلَا تحسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَناجَشُوا وَلَا تَحاسَدُوا وَلَا تَباغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا وكُونُوا عبادَ الله إخْوَاناً.
وَجه الْمُطَابقَة بَين هَذَا الحَدِيث وَالْآيَة الْمَذْكُورَة أَن البغض والحسد ينشآن عَن سوء الظَّن.
وَأَبُو الزِّنَاد بالزاي وَالنُّون عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج هُوَ عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
والْحَدِيث مضى فِي الْبَاب الَّذِي قبله، غير أَن هُنَاكَ زِيَادَة قَوْله: (وَلَا يحل لمُسلم أَن يهجر أَخَاهُ فَوق ثَلَاثَة أَيَّام) ، وَهَهُنَا زِيَادَة قَوْله: (وَلَا تناجشوا) ، من النجش بالنُّون وَالْجِيم والشين الْمُعْجَمَة وَهُوَ أَن يزِيد فِي ثمن الْمَبِيع بِلَا رَغْبَة ليخدع غَيره فيوقعه فيزاد عَلَيْهِ، وَقد مر هَذَا فِي الْبيُوع، وَوَقع فِي جَمِيع الرِّوَايَات عَن مَالك بِلَفْظ: وَلَا تنافسوا، وَكَذَا أخرجه مُسلم عَن يحيى بن يحيى التَّمِيمِي. وَأخرج من طَرِيق الْأَعْمَش عَن أبي صَالح بِلَفْظ: لَا تناجشوا، كَمَا وَقع عِنْد البُخَارِيّ رَحمَه الله، والمنافسة هِيَ التنافس وَهِي الرَّغْبَة فِي الشَّيْء والانفراد بِهِ، وَهُوَ من الشَّيْء النفيس الْجيد فِي نَوعه.
٥٩ - (بابُ مَا يَكونُ مِنَ الظَّنِّ)