وإمَّا فدَاء} (مُحَمَّد: ٤) . وَهُوَ قَول مُجَاهِد. وَقَالَ غَيرهم: إِن الْآيَتَيْنِ جَمِيعًا محكمتان، وَهُوَ قَول ابْن زيد، وَهُوَ قَول صَحِيح بَين، لِأَن إِحْدَاهَا لَا تَنْفِي الْأُخْرَى، ينظر الإِمَام فِي ذَلِك مِمَّا يرَاهُ مصلحَة، أما الْقَتْل وَإِمَّا الْفِدَاء أَو الْمَنّ، وَكَذَا قَالَ أَبُو عبيد بن سَلام، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي وَمَالك وَأحمد وَأبي ثَوْر، قَالَ: وَقد فعل هَذَا كُله سيدنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حروبه.
وَقَالَ الطَّحَاوِيّ اخْتلف قَول أبي حنيفَة فِي هَذَا، فَروِيَ عَنهُ: أَن الأسرى لَا تفادى وَلَا يردون حَربًا، لِأَن فِي ذَلِك قُوَّة لأهل الْحَرْب، وَإِنَّمَا يفادون بِالْمَالِ وَمَا سواهُ مِمَّا لَا قُوَّة لَهُم فِيهِ، وَرُوِيَ عَنهُ: أَنه لَا بَأْس أَن يفادى بالمشركين أُسَارَى الْمُسلمين، وَهُوَ قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد، وَرَأى أَبُو حنيفَة أَن الْمَنّ مَنْسُوخ، وَقيل: كَانَ خَاصّا بسيدنا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ أَبُو عبيد: وَالْقَوْل فِي ذَلِك عندنَا أَن الْآيَات جَمِيعًا محكمات لَا مَنْسُوخ فِيهِنَّ، وَذَلِكَ أَنه عمل بِالْآيَاتِ كلهَا من الْقَتْل والأسر وَالْفِدَاء حَتَّى توفاه الله تَعَالَى على ذَلِك، فَكَانَ أول أَحْكَامه فيهم يَوْم بدر، فَعمل بهَا كلهَا يَوْمئِذٍ، بَدَأَ بِالْقَتْلِ فَقتل عقبَة بن أبي معيط وَالنضْر بن الْحَارِث فِي قفوله، ثمَّ قدم الْمَدِينَة فَحكم فِي سَائِرهمْ بِالْفِدَاءِ، ثمَّ حكَّم يَوْم بني قُرَيْظَة سعد بن معَاذ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقتل الْمُقَاتلَة وسبى الذُّرِّيَّة، فنفذه رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأمضاه، ثمَّ كَانَت غزَاة بني المصطلق، رَهْط جوَيْرِية بنت الْحَارِث، فاستحياهم جَمِيعًا وأعتقهم، ثمَّ كَانَ فتح مَكَّة فَأمر بقتل ابْن خطل والقينتين وَأطلق البَاقِينَ، ثمَّ كَانَت حنين فسبى هوَازن وَمن عَلَيْهِم وَقتل أباغرة الجُمَحِي يَوْم أحد وَقد كَانَ منَّ عَلَيْهِ يَوْم بدر، وَأطلق ثُمَامَة بن أَثَال، فَهَذِهِ كَانَت أَحْكَامه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بالمن وَالْفِدَاء وَالْقَتْل، فَلَيْسَ شَيْء مِنْهَا مَنْسُوخا، وَالْأَمر فيهم إِلَى الإِمَام وَهُوَ مُخَيّر بن الْقَتْل والمن وَالْفِدَاء، يفعل الْأَفْضَل فِي ذَلِك لِلْإِسْلَامِ وَأَهله، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأبي ثَوْر. انْتهى. وَقَالَ أَصْحَابنَا: لَا يجوز مفاداة أسرى الْمُشْركين، قَالَ الله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين حِين وَجَدْتُمُوهُمْ} (التَّوْبَة: ٥) . الْآيَة. وَقَوله تَعَالَى: {قَاتلُوا الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِاللَّه وَلَا بِالْيَوْمِ الآخر وَلَا يحرمُونَ مَا حرم الله وَرَسُوله وَلَا يدينون دين الْحق من الَّذين أُوتُوا الْكتاب حَتَّى يُعْطوا الْجِزْيَة عَن يدٍ وهم صاغرون} (التَّوْبَة: ٩٢) . وَمَا ورد فِي أسرى بدر كُله مَنْسُوخ، وَلم يخْتَلف أهل التَّفْسِير ونقلة الْآثَار أَن سُورَة بَرَاءَة بعد سُورَة مُحَمَّد، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَوَجَبَ أَن يكون الحكم الْمَذْكُور فِيهَا نَاسِخا للْفِدَاء الْمَذْكُور فِي غَيرهَا.
١٥١ - (بابٌ: لِلأَسِيرِ أنْ يَقْتلَ أَو يَخْدَعَ الَّذِينَ أسَرُوهُ حتَّى يَنْجُو مِنَ الكَفَرَةِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ هَل للأسير فِي أَيدي الْكفَّار أَن يقتل ... إِلَخ، وَإِنَّمَا لم يذكر الْجَواب لمَكَان الِاخْتِلَاف فِي، فَقَالَ الْجُمْهُور: إِن ائتمنوه يَفِي لَهُم بالعهد، حَتَّى قَالَ مَالك: لَا يجوز أَن يهرب مِنْهُم، وَخَالفهُ أَشهب فَقَالَ: لَو خرج بِهِ الْكَافِر ليفادى بِهِ فَلهُ أَن يقْتله. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِعْطَاؤُهُ الْعَهْد على ذَلِك بَاطِل، وَيجوز لَهُ أَن لَا يَفِي لَهُم بِهِ، وَبِه قَالَ الطَّبَرِيّ. وَقَالَت الشَّافِعِيَّة: يجوز أَن يهرب من أَيْديهم وَلَا يجوز أَن يَأْخُذ من أَمْوَالهم، قَالُوا: وَإِن لم يكن بَينهم عهد جَازَ لَهُ أَن يتَخَلَّص مِنْهُم بِكُل طَرِيق، وَلَو بِالْقَتْلِ وَأخذ المَال وتحريق الدَّار وَغير ذَلِك، وَقَالَ ابْن الْمَوَّاز: إِذا ألجؤه أَن يحلف أَن لَا يهرب بِطَلَاق أَو عتاق أَنه لَا يلْزمه ذَلِك لِأَنَّهُ مَكْرُوه، وَرَوَاهُ أَبُو زيد عَن ابْن الْقَاسِم. وَقَالَ غَيره: لَا معنى لمن فرق بَين يَمِينه ووعده، لِأَن حَاله حَال الْمُكْره حلف لَهُم أَو وعدهم أَو عاهدهم سَوَاء أمنوه أَو أخافوه، لِأَن الله تَعَالَى فرض على الْمُؤمن أَن لَا يبْقى تَحت أَحْكَام الْكفَّار، وَأوجب عَلَيْهِ الْهِجْرَة من دَارهم، فخروجه على كل وَجه جَائِز، وَالْحجّة فِي ذَلِك خُرُوج من أبي بَصِير، وتصويب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فعله وَرضَاهُ.
فِيهِ المِسْوَرُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: فِي حكم هَذَا الْبَاب حَدِيث الْمسور بن مخرمَة، وَفِيه قصَّة أبي بَصِير، وَقد مر حَدِيثه فِي كتاب الشُّرُوط فِي: بَاب الشُّرُوط فِي الْجِهَاد، مطولا جدا، وَمن أمره يُؤْخَذ وَجه الْمُطَابقَة لما ترْجم لَهُ.
٢٥١ - (بابٌ إذَا حَرَّقَ المُشْرِكُ المُسْلِمَ هَلْ يُحَرِّقُ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا أحرق الْمُشرك الرجل الْمُسلم، هَل يحرق هَذَا الْمُشرك جَزَاء بِفِعْلِهِ؟ وأحرق يحرق من بَاب الْأَفْعَال، وَفِي بعض النّسخ: إِذا حرق، بتَشْديد الرَّاء، من التحريق، وَكَذَلِكَ: يحرق، بِالتَّشْدِيدِ قيل: كَانَ اللَّائِق أَن يذكر هَذِه
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute