عرض الذُّنُوب والتوقيف على قَبِيح مَا سلف لَهُ تَعْذِيب وتوبيخ. وَالْآخر أَنه مفض إِلَى اسْتِحْقَاق الْعَذَاب، إِذْ لَا حَسَنَة للْعَبد يعملها إلَاّ من عِنْد اللَّه وبفضله وإقداره لَهُ عَلَيْهَا وهدايته لَهَا، وَأَن الْخَالِص لوجهه تَعَالَى من الْأَعْمَال قَلِيل، وَيُؤَيِّدهُ قَوْله: يهْلك مَكَان عذب. قَوْله: (يَسِيرا) أيَّ سهلاً هيناً لَا يناقش فِيهِ وَلَا يعْتَرض بِمَا يشق عَلَيْهِ كَمَا يناقش أَصْحَاب الشمَال. فَإِن قلت: مَا وَجه الْمُعَارضَة هَهُنَا أَعنِي بَين الحَدِيث وَالْآيَة؟ قلت: وَجههَا أَن الحَدِيث عَام فِي تَعْذِيب من حُوسِبَ، وَالْآيَة تدل على عدم تَعْذِيب بَعضهم، وهم أَصْحَاب الْيَمين، وجوابها أَن المُرَاد من الْحساب فِي الْآيَة الْعرض يَعْنِي: الإبراز والإظهار. وَعَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، هُوَ أَن يعرف ذنُوبه ثمَّ يتَجَاوَز عَنهُ. قَوْله: (من نُوقِشَ) الْمَعْنى: أَن التَّقْصِير غَالب على الْعباد، فَمن استقصي عَلَيْهِ وَلم يسامح هلك وَأدْخل النَّار، وَلَكِن الله تَعَالَى يعْفُو وَيغْفر مَا دون الشّرك لمن شَاءَ. وَقيل إِن المناقشة فِي الْحساب نَفسهَا هُوَ الْعَذَاب، لما رُوِيَ عَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَنه قَالَ: (من يُحَاسب يعذب. فَقيل: يَا رَسُول الله فَسَوف يُحَاسب حسابا يَسِيرا. قَالَ: ذَلِكُم الْعرض، من نُوقِشَ فِي الْحساب عذب) . وَفِيه نظر، لِأَن قَوْله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (من يُحَاسب يعذب) . وَقَوله: (من نُوقِشَ فِي الْحساب عذب) يدل على أَن من حُوسِبَ عذب سَوَاء بمناقشة أَو لَا، وَلَا يدل على أَن المناقشة فِي الْحساب نَفسهَا عَذَاب، بل الْمَعْهُود خِلَافه، فَإِن الْجَزَاء لَا بُد وَأَن يكون سَببا عَن الشَّرْط، وَالْجَوَاب: أَن التألم الْحَاصِل للنَّفس بمطالبة الْحساب غير الْحساب ومسبب عَنهُ، فَجَاز أَن يكون بذلك الِاعْتِبَار جَزَاء.
بَيَان اسنتباط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ بَيَان فَضِيلَة عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، وحرصها على التَّعَلُّم وَالتَّحْقِيق، فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا كَانَ يتضجر من الْمُرَاجَعَة إِلَيْهِ. الثَّانِي: فِيهِ إِثْبَات الْحساب وَالْعرض. الثَّالِث: فِيهِ إِثْبَات الْعَذَاب يَوْم الْقِيَامَة. الرَّابِع: فِيهِ جَوَاز المناظرة ومقابلة السّنة بِالْكتاب. الْخَامِس: فِيهِ تفَاوت النَّاس فِي الْحساب.
٣٧ - (بابٌ لِيُبَلّغِ العِلْمَ الشَّاهِدُ الغائبَ)
أَي: هَذَا بَاب، وَهُوَ منون قطعا. قَوْله: (ليبلغ) أَمر للْغَائِب، وَيجوز فِي الْغَيْن الْكسر لِأَن الأَصْل فِي السَّاكِن تحريكه بِالْكَسْرِ إِذا حرك، وَالْفَتْح لِأَنَّهُ أخف الحركات، وَلَا يجوز غير ذَلِك، و: الشَّاهِد، بِالرَّفْع لِأَنَّهُ فَاعل: ليبلغ، وَقَوله: الْعلم وَالْغَائِب، منصوبان على أَنَّهُمَا مفعولان لَهُ. وَالتَّقْدِير: ليبلغ الشَّاهِد الْغَائِب الْعلم وَالشَّاهِد الْحَاضِر من شهد إِذا حضر.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق مُرَاجعَة المتعلم أَو السَّامع لضبط مَا يسمعهُ من الْعَالم، وَفِيه معنى التَّبْلِيغ من المراجع إِلَيْهِ إِلَى المراجع، فَكَأَن المراجع كَانَ كالغائب عِنْد سَمَاعه حَتَّى لم يفهم مَا سَمعه وراجع فِيهِ، وَهَذَا الْبَاب أَيْضا فِيهِ تَبْلِيغ الشَّاهِد الْغَائِب، فتناسبا من هَذِه الْحَيْثِيَّة.
قَالَهُ ابنُ عَبَّاسٍ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: رَوَاهُ عبد اللَّه بن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَهَذَا تَعْلِيق، وَلكنه أسْندهُ فِي كتاب الْحَج فِي: بَاب الْخطْبَة أَيَّام منى، عَن عَليّ بن يحيى بن سعيد عَن سعيد بن غَزوَان عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (خطب النَّاس يَوْم النَّحْر فَقَالَ: أَيهَا النَّاس! أَي يَوْم هَذَا؟ قَالُوا: يَوْم حرَام) وَفِي آخِره: (اللَّهُمَّ هَل بلغت؟ اللَّهُمَّ هَل بلغت؟) قَالَ ابْن عَبَّاس: فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لوَصِيَّة إِلَى أمته فليبلغ الشَّاهِد الْغَائِب، وَذكر الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: حَدثنَا زُهَيْر بن حَرْب وَعُثْمَان بن أبي شيبَة، حَدثنَا جرير عَن الْأَعْمَش عَن عبد اللَّه ابْن عبد اللَّه عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (تَسْمَعُونَ وَيسمع مِنْكُم وَيسمع من يسمع مِنْكُم) . وَقَالَ بَعضهم: وَلَيْسَ فِي شَيْء من طرق حَدِيث ابْن عَبَّاس بِهَذِهِ الصُّورَة، وَإِنَّمَا هُوَ فِي رِوَايَته وَرِوَايَة غَيره بِحَذْف الْعلم، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالْمَعْنَى، لِأَن الْمَأْمُور بتبليغه هُوَ الْعلم. قلت: لَيْسَ كَذَلِك، بل هُوَ مثل مَا فِي الحَدِيث الْمَذْكُور، غَايَة مَا فِي الْبَاب أَنه أبرز أحد المفعولين الَّذِي هُوَ مُقَدّر فِي الحَدِيث، وَهُوَ لَفْظَة: الْعلم.
١٠٤ - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ قَالَ: حدّثني اللَّيْثُ قالَ: حدّثني سَعِيدٌ عنْ أبي شُرَيْحٍ أنَّهُ قالَ لِ عَمْرِو بنِ سعِيدٍ، وَهْوَ يَبْعَثُ البُعُوثَ إِلى مَكَّة: ائْذَنْ لِي أيُّهَا الأمِيرُ أحَدّثْكَ قَوْلاً قامَ بِهِ النبيّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute