سَائِر الْآيَات الَّتِي فِي الْكتاب مقروءة، قَوْله: (قد عرفنَا ذَلِك الْيَوْم) مَعْنَاهُ: أَنا مَا أهملناه وَلَا خَفِي علينا زمَان نُزُولهَا، وَلَا مَكَان نُزُولهَا، وضبطنا جَمِيع مَا يتَعَلَّق بهَا حَتَّى صفة النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، وموضعه فِي زمَان النُّزُول، وَهُوَ كَونه، عَلَيْهِ السَّلَام، قَائِما حِينَئِذٍ، وَهُوَ غَايَة فِي الضَّبْط. وَقَالَ النَّوَوِيّ: مَعْنَاهُ: أَنا مَا تركنَا تَعْظِيم ذَلِك الْيَوْم وَالْمَكَان، أما الْمَكَان فَهُوَ عَرَفَات، وَهُوَ مُعظم الْحَج الَّذِي هُوَ أحد أَرْكَان الْإِسْلَام، وَأما الزَّمَان فَهُوَ يَوْم الْجُمُعَة وَيَوْم عَرَفَة. وَهُوَ يَوْم اجْتمع فِيهِ فضلان وشرفان، وَمَعْلُوم تعظيمنا لكل وَاحِد مِنْهُمَا، فَإِذا اجْتمعَا زَاد التَّعْظِيم، فقد اتخذنا ذَلِك الْيَوْم عيدا، وعظمنا مَكَانَهُ أَيْضا، وَهَذَا كَانَ فِي حجَّة الْوَدَاع، وعاش النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، بعْدهَا ثَلَاثَة أشهر. قَوْله: (وَالَّذِي نزلت فِيهِ على النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) زَاد مُسلم، عَن عبد بن حميد عَن جَعْفَر بن عون فِي هَذَا الحَدِيث، وَلَفظه: (إِنِّي لأعْلم الْيَوْم الَّذِي أنزلت فِيهِ) . وَلأَحْمَد عَن جَعْفَر بن عون: (والساعة الَّتِي نزلت فِيهَا على النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام) فَإِن قلت: كَيفَ طابق الْجَواب السُّؤَال؟ لِأَنَّهُ قَالَ لاتخذناه عيداً؟ فَقَالَ عمر، رَضِي الله عَنهُ: عرفنَا أَحْوَاله، وَلم يقل جَعَلْنَاهُ عيداً. قلت: لما بَين أَن يَوْم النُّزُول كَانَ عَرَفَة وَمن المشهورت أَن الْيَوْم الَّذِي بعد عَرَفَة عيد للْمُسلمين، فَكَأَنَّهُ قَالَ: جَعَلْنَاهُ عيدا بعد إدراكنا اسْتِحْقَاق ذَلِك الْيَوْم للتعبد فِيهِ. فَإِن قلت: فَلم مَا جعلُوا يَوْم النُّزُول عيدا؟ قلت: لِأَنَّهُ ثَبت فِي الصَّحِيح أَن النُّزُول كَانَ بعد الْعَصْر، وَلَا يتَحَقَّق الْعِيد إلَاّ من أول النَّهَار، وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاء: ورؤية الْهلَال بِالنَّهَارِ لليلة الْمُسْتَقْبلَة، فَافْهَم.
٣٤ - (بَاب الزَّكاةُ مِنَ الإسْلَامِ)
أَي: هَذَا بَاب، وَالْبَاب منون، وَيجوز بِالْإِضَافَة إِلَى الْجُمْلَة، وَالزَّكَاة مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبره: من الاسلام أَي: الزَّكَاة شُعْبَة من شعب الْإِسْلَام. وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق هُوَ زِيَادَة الْإِيمَان ونقصانه، وَقد علم أَن الزِّيَادَة تكون بِالْأَعْمَالِ وَالنَّقْص بِتَرْكِهَا، وَهَذَا الْبَاب فِيهِ: أَن أَدَاء الزَّكَاة من الْإِسْلَام، يَعْنِي: أَنه إِذا أدّى الزَّكَاة يكون إِسْلَامه كَامِلا، وَإِذا تَركهَا يكون نَاقِصا. لَا يُقَال: لم أفرد الزَّكَاة بِالذكر فِي التَّرْجَمَة من بَين سَائِر أَرْكَان الْإِسْلَام، لِأَنَّهُ قد أفرد لكل وَاحِد من بَقِيَّة الإركان بَابا بترجمة.
وقَوْلُه {ومَا أُمِرُوا إلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ويُقِيمُوا الصَّلَاةَ ويُؤْتُوا الزَّكاةَ وذَلِكَ دِينُ القيمةِ} (الْبَيِّنَة: ٥) .
هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة البَاقِينَ: بَاب الزَّكَاة من الْإِسْلَام، وَقَول الله تَعَالَى: {وَمَا أمروا إلَاّ ليعبدوا الله} (الْبَيِّنَة: ٥) الْآيَة وَفِي بعض النّسخ: وَقَوله تَعَالَى: {وَمَا أمروا} (الْبَيِّنَة: ٥) الْآيَة ... قَوْله: (وَقَول الله) مجرور عطف على مَحل، قَوْله: (الزَّكَاة من الْإِسْلَام) لِأَنَّهَا مُضَاف إِلَيْهَا، وَكَذَلِكَ قَوْله: وَقَوله تَعَالَى. وَأما راوية أبي ذَر، فَإِنَّهَا بِلَا عطف، لِأَن الْوَاو فِي قَوْله: {وَمَا أمروا} (الْبَيِّنَة: ٥) وَاو الْعَطف فِي الْقُرْآن عطف بهَا على مَا قبله: {وَمَا تفرق الَّذين أُوتُوا الْكتاب إلَاّ من بعد مَا جَاءَتْهُم الْبَيِّنَة} (الْبَيِّنَة: ٤) فَإِن قلت: كَيفَ التئام الْآيَة بالترجمة؟ قلت: الالتئام بَينهمَا معنوي، وَهُوَ أَن الْآيَة فِيهَا ذكر أَن الزَّكَاة من الدّين، وَالدّين هُوَ الْإِسْلَام لقَوْله تَعَالَى: {إِن الدّين عِنْد الله الْإِسْلَام} (آل عمرَان: ١٩) وَتَحْقِيق ذَلِك أَن الله تَعَالَى ذكر فِي هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة ثَلَاثَة أَشْيَاء: الأول: إخلاص الدّين الَّذِي هُوَ رَأس جَمِيع الْعِبَادَات، وَالثَّانِي: إِقَامَة الصَّلَاة الَّتِي هِيَ عماد الدّين، وَالثَّالِث إيتَاء الزَّكَاة الَّتِي تذكر دَائِما تالية للصَّلَاة، ثمَّ أَشَارَ إِلَى جَمِيع ذَلِك بقوله: {وَذَلِكَ دين الْقيمَة} (الْبَيِّنَة: ٥) أَي: الْمَذْكُور من هَذِه الْأَشْيَاء هُوَ دين الْقيمَة، أَي: دين الْملَّة الْقيمَة، فالموصوف مَحْذُوف وقرىء وَذَلِكَ الدّين الْقيمَة. على تَأْوِيل الدّين بالملة وَمعنى: الْقيمَة، المستقيمة الناطقة بِالْحَقِّ وَالْعدْل. فَإِن قلت: كَيفَ خص الزَّكَاة بالترجمة، وَالْمَذْكُور ثَلَاثَة أَشْيَاء؟ قلت: أُجِيب عَن هَذَا عَن قريب. قَوْله: {وَمَا أمروا} (الْبَيِّنَة: ٥) أَي: وَمَا أَمر أهل الْكتاب فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل إلَاّ بِالدّينِ الحنيفي، وَلَكنهُمْ حرفوا وبدلوا. وَقَالَ الزمحشري: فَإِن قلت:) مَا وَجه قَوْله {وَمَا أمروا إِلَّا ليعبدوا الله مُخلصين} (الْبَيِّنَة: ٥) قلت: مَعْنَاهُ: وَمَا أمروا فِي الْكِتَابَيْنِ إلَاّ لأجل أَن يعبدوا الله على هَذِه الصّفة. وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود، رَضِي الله عَنهُ: إلَاّ أَن يعبدوا. بِمَعْنى: بِأَن يعبدوا الله انْتهى. قلت: الْعِبَادَة بِمَعْنى التَّوْحِيد، أَي: وَمَا أمروا إلَاّ ليوحدوا الله، وَالِاسْتِثْنَاء من أَعم عَام الْمَفْعُول لأَجله، أَي مَا أمروا لأجل شَيْء إلَاّ لِلْعِبَادَةِ، أَي: التَّوْحِيد، وَالْعبْرَة بِعُمُوم اللَّفْظ لَا بِخُصُوص
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute