وَأقَام لكل صَلَاة من الْفَوَائِت، وَإِن شَاءَ اقْتصر على الْإِقَامَة لما روى التِّرْمِذِيّ عَن ابْن مَسْعُود: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَاتَتْهُ يَوْم الخَنْدَق أَربع صلوَات حَتَّى ذهب من اللَّيْل مَا شَاءَ الله، فَأمر بِلَالًا فَأذن ثمَّ أَقَامَ فصلى الظّهْر ثمَّ أَقَامَ فصلى الْعَصْر ثمَّ أَقَامَ فصلى الْمغرب ثمَّ أَقَامَ فصلى الْعشَاء) .
فَإِن قلت: إِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك فَمن أَيْن التَّخْيِير؟ قلت: جَاءَ فِي رِوَايَة: (قضاهن صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بآذان وَإِقَامَة) . وَفِي رِوَايَة: (بِأَذَان وَإِقَامَة للأولى وَإِقَامَة لكل وَاحِدَة من الْبَوَاقِي) . وَلِهَذَا الِاخْتِلَاف خيرنا فِي ذَلِك، وَفِي (التُّحْفَة) : وَرُوِيَ فِي غير رِوَايَة الْأُصُول عَن مُحَمَّد بن الْحسن: إِذا فَاتَتْهُ صلوَات تقضى الأولى بآذان وَإِقَامَة، وَالْبَاقِي بِالْإِقَامَةِ دون الآذان. وَقَالَ الشَّافِعِي فِي (الْجَدِيد) يُقيم لَهُنَّ وَلَا يُؤذن، وَفِي الْقَدِيم: يُؤذن للأولى وَيُقِيم، ويقتصر فِي الْبَوَاقِي على الْإِقَامَة. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (شرح الْمُهَذّب) : يُقيم لكل وَاحِدَة بِلَا خلاف، وَلَا يُؤذن لغير الأولى مِنْهُنَّ. وَفِي الأولى ثَلَاثَة أَقْوَال فِي الْأَذَان، أَصَحهَا: أَنه يُؤذن وَلَا يعْتَبر بتصحيح الرَّافِعِيّ منع الْأَذَان والآذان للأولى مَذْهَب: مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأبي ثَوْر. وَقَالَ ابْن بطال: لم يذكر الآذان فِي الأولى عَن مَالك وَالشَّافِعِيّ، وَقَالَ الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَإِسْحَاق: لَا يُؤذن لفائتة.
السَّابِع: فِيهِ دَلِيل على أَن قَضَاء الْفَوَائِت بِعُذْر لَيْسَ على الْفَوْر، وَهُوَ الصَّحِيح، وَلَكِن يسْتَحبّ قَضَاؤُهَا على الْفَوْر. وَحكى الْبَغَوِيّ وَجها عَن الشَّافِعِي: أَنه، على الْفَوْر، وَأما الْفَائِتَة بِلَا عذر فَالْأَصَحّ قَضَاؤُهَا على الْفَوْر، وَقيل: لَهُ التَّأْخِير كَمَا فِي الأولى. الثَّامِن: فِيهِ أَن الْفَوَائِت لَا تقضى فِي الْأَوْقَات الْمنْهِي عَن الصَّلَاة فِيهَا، وَاخْتلف أَصْحَابنَا فِي قدر الْوَقْت الَّذِي تُبَاح فِيهِ الصَّلَاة بعد الطُّلُوع. قَالَ فِي الأَصْل: حَتَّى ترْتَفع الشَّمْس قدر رمح أَو رُمْحَيْنِ. وَقَالَ أَبُو بكر مُحَمَّد بن الْفضل: مَا دَامَ الْإِنْسَان يقدر على النّظر إِلَى قرص الشَّمْس لَا تُبَاح فِيهِ الصَّلَاة، فَإِن عجز عَن النّظر تُبَاح.
التَّاسِع: فِيهِ دَلِيل على جَوَاز قَضَاء الصَّلَاة الْفَائِتَة بِالْجَمَاعَة.
الْعَاشِر: احْتج بِهِ الْمُهلب على أَن الصَّلَاة الْوُسْطَى هِيَ صَلَاة الصُّبْح، قَالَ: لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يَأْمر أحدا بمراقبة وَقت صَلَاة غَيرهَا، وَفِيه نظر لَا يخفى.
الْحَادِي عشر: فِيهِ دَلِيل على قبُول خبر الْوَاحِد، وَاسْتدلَّ بِهِ قوم على ذَلِك، وَقَالَ ابْن بزيزة: وَلَيْسَ هُوَ بقاطع فِيهِ لاحْتِمَال أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يرجع إِلَى قَول بِلَال بِمُجَرَّدِهِ، بل بعد النّظر إِلَى الْفجْر لَو اسْتَيْقَظَ مثلا.
الثَّانِي عشر: اسْتدلَّ بِهِ مَالك فِي عدم قَضَاء سنة الْفجْر، وَقَالَ أَشهب: سُئِلَ مَالك هَل ركع صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَكْعَتي الْفجْر حِين نَام عَن صَلَاة الصُّبْح حَتَّى طلعت الشَّمْس؟ قَالَ: مَا بَلغنِي. وَقَالَ أَشهب: بَلغنِي أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ركع. وَقَالَ عَليّ بن زِيَاد: وَقَالَ غير مَالك، وَهُوَ أحب إِلَى أَن يرْكَع، وَهُوَ قَول الْكُوفِيّين وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ، وَقد قَالَ مَالك: إِن أحب أَن يركعهما من فَاتَتْهُ بعد طُلُوع الشَّمْس فعل. قلت: مَذْهَب مُحَمَّد بن الْحسن: إِذا فَاتَتْهُ رَكعَتَا الْفجْر يقضيهما إِذا ارْتَفع النَّهَار إِلَى وَقت الزَّوَال، وَعند أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف لَا يقضيهما هَذَا إِذا فَاتَت وَحدهَا، وَإِذا فَاتَت مَعَ الْفَرْض يقْضِي اتِّفَاقًا.
الثَّالِث عشر: فِيهِ أقوى دَلِيل لنا على عدم جَوَاز الصَّلَاة عِنْد طُلُوع الشَّمْس لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ترك الصَّلَاة حَتَّى ابياضت الشَّمْس، ولورود النَّهْي فِيهِ أَيْضا.
٣٦ - (بابُ مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ جَمَاعَةً بَعْدَ ذَهَابِ الوَقْتِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ من صلى بِالنَّاسِ الْفَائِتَة بعد خُرُوج الْوَقْت. قَوْله: (جمَاعَة) ، نصب على الْحَال من النَّاس بِمَعْنى مُجْتَمعين.
٧٢ - (حَدثنَا معَاذ بن فضَالة قَالَ حَدثنَا هِشَام عَن يحيى عَن أبي سَلمَة عَن جَابر بن عبد الله أَن عمر بن الْخطاب جَاءَ يَوْم الخَنْدَق بعد مَا غربت الشَّمْس فَجعل يسب كفار قُرَيْش قَالَ يَا رَسُول الله مَا كدت أُصَلِّي الْعَصْر حَتَّى كَادَت الشَّمْس تغرب قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالله مَا صليتها فقمنا إِلَى بطحان فَتَوَضَّأ للصَّلَاة وتوضأنا لَهَا فصلى الْعَصْر بعد مَا غربت الشَّمْس ثمَّ صلى بعْدهَا الْمغرب) مطابقته للتَّرْجَمَة استفيدت من اخْتِصَار الرَّاوِي فِي قَوْله " فصلى الْعَصْر " إِذْ أَصله فصلى بِنَا الْعَصْر وَكَذَا رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق يزِيد بن زُرَيْع عَن هِشَام وَقَالَ الْكرْمَانِي (فَإِن قلت) كَيفَ دلّ الحَدِيث على الْجَمَاعَة (قلت) إِمَّا لِأَن البُخَارِيّ