أحمسي ثَوْبه طَاف فِيهِ، وإلَاّ ألْقى ثِيَابه بِبَاب الْمَسْجِد ثمَّ طَاف سبعا عُريَانا، وَكَانُوا يَقُولُونَ: لَا نطوف فِي الثِّيَاب الَّتِي قارفنا فِيهَا الذُّنُوب. وَكَانَ بعض نِسَائِهِم تتَّخذ سيورا تعلقهَا فِي حقويها وتستر بهَا، وَفِيه تَقول العامرية:
(الْيَوْم يَبْدُو بعضه أَو كُله ... وَمَا بدا مِنْهُ فَلَا نحلّه)
ثمَّ من طَاف مِنْهُم فِي ثِيَابه لم يحل لَهُ أَن يلبسهَا أبدا، وَلَا ينْتَفع بهَا، وللرياشي زِيَادَة فِي الْبَيْت الْمَذْكُور:
(كم من لَبِيب لبُّه يضلُّهُ ... وناظرٍ ينظر مَا يملُّهُ)
(جهمٍ من الجثم عَظِيم ظلُّهُ)
قلت: كَانَت هَذِه الْمَرْأَة ضباعة بنت عَامر، وَكَانَت تَحت عبد الله بن جدعَان، وطافت بِالْبَيْتِ عُرْيَانَة وَهِي وَاضِعَة يَديهَا على فخذيها، وقريش أحدثت بهَا وَهِي تَقول هَذِه الأبيات، وطافت بِالْبَيْتِ الْحَرَام أسبوعا. وَفِي (تَارِيخ ابْن عَسَاكِر) : كَانَت تغطي جَسدهَا بشعرها، وَكَانَت إِذا جَلَست أخذت من الأَرْض شَيْئا كثيا لعظم خلقهَا. وَفِي (صَحِيح مُسلم) عَن ابْن عَبَّاس: كَانَت الْمَرْأَة تَطوف بِالْبَيْتِ عُرْيَانَة، تَقول: من يعيرني تطوافا، يَعْنِي: ثوبا تَطوف بِهِ، تَجْعَلهُ على فرجهَا، وَتقول:
الْيَوْم يبدون ... إِلَى آخِره.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: حكمان: الأول: لَا يحجّ بعد الْعَام مُشْرك، فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بالنداء بذلك حِين نزلت {إِنَّمَا الْمُشْركُونَ نجس فَلَا يقربُوا الْمَسْجِد الْحَرَام بعد عَامهمْ هَذَا} (التَّوْبَة: ٨٢) . وَالْمرَاد بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام هُنَا، الْحرم كُله، فَلَا يُمكن مُشْرك من دُخُول الْحرم بِحَال، وَكَذَلِكَ لَا يُمكن أهل الذِّمَّة من الْإِقَامَة بعد ذَلِك، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أخرجُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى من جَزِيرَة الْعَرَب) قَالَه فِي مرض مَوته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن قلت: إِن الْحَبَشَة يخربون الْكَعْبَة حجرا حجرا. قلت: لفظ الحَدِيث نهي لَا خبر، وَكَذَلِكَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يجْتَمع الْمُسلمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ بعد عَامهمْ هَذَا) فِي حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَانْفَرَدَ بِهِ، فَقَالَ: حَدثنَا عَليّ ابْن خشرم أخبرنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن أبي إِسْحَاق (عَن زيد بن أشْبع قَالَ: سَأَلت عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِأَيّ شَيْء بعثت؟ قَالَ: (بِأَرْبَع: لَا يدْخل الْجنَّة إلَاّ نفس مسلمة، وَلَا يطوف بِالْبَيْتِ عُرْيَان، وَلَا يجْتَمع الْمُسلمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ بعد عَامهمْ هَذَا. .) الحَدِيث. الحكم الثَّانِي: أَن لَا يطوف بِالْبَيْتِ عُرْيَان، وَاحْتج مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فِي رِوَايَة بِهَذَا، فَقَالُوا بِاشْتِرَاط ستر الْعَوْرَة، وَذهب أَبُو حنيفَة وَأحمد فِي رِوَايَة إِلَى أَنه لَو طَاف عُريَانا يجْبر بِدَم.
٨٦ - (بابٌ إذَا وقَفَ فِي الطَّوَافِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا وقف الطَّائِف فِي طَوَافه هَل يَنْقَطِع طَوَافه أم لَا يَنْقَطِع؟ وَإِنَّمَا أطلق لوُجُود الِاخْتِلَاف فِيهِ، فَعِنْدَ الْجُمْهُور: إِذا عرض لَهُ أَمر فِي طَوَافه فَوقف يَبْنِي ويتمه وَلَا يسْتَأْنف طَوَافه، وَقَالَ الْحسن: إِذا أُقِيمَت عَلَيْهِ الصَّلَاة وَهُوَ فِي الطّواف فَقَطعه، فَإِنَّهُ يستأنفه وَلَا يَبْنِي على مَا مضى. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَلَا أعلم قَالَه غَيره، وَقَالَ ابْن بطال: جُمْهُور الْعلمَاء يرَوْنَ لمن أُقِيمَت عَلَيْهِ الصَّلَاة الْبناء على طَوَافه إِذا فرغ من صلَاته، رُوِيَ هَذَا عَن ابْن عمر وَالنَّخَعِيّ وَعَطَاء وَابْن الْمسيب وطاووس، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر. وَفِي (شرح الْمُهَذّب) : فَإِن حضرت جَنَازَة فِي أثْنَاء الطّواف فمذهب الشَّافِعِي وَمَالك إتْمَام الطّواف أولى، وَبِه قَالَ عَطاء وَعَمْرو بن دِينَار، وَقَالَ أَبُو ثَوْر: لَا يخرج، وَإِن خرج اسْتَأْنف، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالْحسن بن صَالح: يخرج لَهَا.
وَقَالَ عَطَاءٌ فِيمَنْ يَطُوفُ فَتُقَامُ الصَّلَاةُ أوْ يُدْفَعُ عَنْ مَكَانِهِ إذَا سَلَّمَ يَرْجَعُ إلَى حَيْثُ قُطِعَ عَلَيْهِ فَيَبْنِي
عَطاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح، وَقَالَ الْكرْمَانِي: إِنَّمَا لم يذكر البُخَارِيّ حَدِيثا يدل على التَّرْجَمَة إِشَارَة إِلَى أَنه لم يجد فِي الْبَاب حَدِيثا بِشَرْطِهِ. قلت: لم يلْزم البُخَارِيّ مَا ذكره، فَإِنَّهُ إِذا ذكر تَرْجَمَة وأتى بأثر من صَحَابِيّ أَو تَابِعِيّ مُطلق للتَّرْجَمَة فَإِنَّهُ يَكْفِي، وَذكر مَا قَالَه عَطاء، وَهُوَ تَابِعِيّ كَبِير بيَّن مُرَاده من التَّرْجَمَة، وَهُوَ أَن الطَّائِف إِذا حصل لَهُ شَيْء فَقطع طَوَافه فَإِنَّهُ يبْنى على مَا مضى وَلَا يستأنفه، وَوصل هَذَا الْمُعَلق عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج، قلت لعطاء: الطّواف الَّذِي تقطعه على الصَّلَاة، واعتد بِهِ يجزىء؟ قَالَ: نعم. وَأحب إِلَيّ أَن ألَاّ يعْتد بِهِ. فَأَرَدْت أَن أركع قبل أَن أتم سبعي! قَالَ: لَا أوفِ سبعك إِلَّا أَن يمْنَع من الطّواف. وَقَالَ سعيد بن