وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ من حَدِيث سعيد عَن أَبِيه الْمسيب: قَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَي عَم، إِنَّك أعظم النَّاس عَليّ حَقًا، وَأَحْسَنهمْ عِنْدِي يدا ولأنت أعظم عِنْدِي حَقًا من وَالِدي، فَقل كلمة تجب لَك بهَا شَفَاعَتِي يَوْم الْقِيَامَة. وَفِيه: نزلت: {مَا كَانَ للنَّبِي} (التَّوْبَة: ٣١١١) . الْآيَة، وروى الْحَاكِم من حَدِيث أبي الْجَلِيل عَن عَليّ، قَالَ: سَمِعت رجلا يسْتَغْفر لِأَبَوَيْهِ وهما مُشْرِكَانِ، فَقلت: تستغفر لِأَبَوَيْك وهما مُشْرِكَانِ؟ قَالَ: أَو لم يسْتَغْفر إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لِأَبِيهِ، فَذَكرته لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَنزلت {مَا كَانَ للنَّبِي} (التَّوْبَة: ٣١١) . الْآيَة، قَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ، وَلما ذكر السُّهيْلي قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ للنَّبِي وَالَّذين آمنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكين} (التَّوْبَة: ٣١١) . قَالَ قد اسْتغْفر سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم أحد، فقاال: أللهم إغفر لقومي فَإِنَّهُم لَا يعلمُونَ، وَلَا يَصح أَن تكون الْآيَة الَّتِي نزلت فِي عَمه ناسخة لاستغفاره يَوْم أحد، لِأَن عَمه توفّي قبل ذَلِك، وَلَا ينْسَخ الْمُتَقَدّم الْمُتَأَخر، وَيُجَاب بِأَن استغفاره لِقَوْمِهِ مَشْرُوط بتوبتهم من الشّرك، كَأَنَّهُ أَرَادَ الدُّعَاء لَهُم بِالتَّوْبَةِ، وَجَاء فِي بعض الرِّوَايَات: أللهم إهذ قومِي، وَقيل: أَرَادَ مغْفرَة تصرف عَنْهُم عُقُوبَة الدُّنْيَا من المسخ وَشبهه، وَقيل: تكون الْآيَة تَأَخّر نُزُولهَا مُتَقَدما ونزولها مُتَأَخّر، لَا سِيمَا وَبَرَاءَة من آخر مَا نزل، فَتكون على هَذَا ناسخة للاستغفار، وَقَالَ ابْن بطال مَا محصله: أَي مُحَاجَّة يحْتَاج إِلَيْهَا من وافى ربه بِمَا يدْخلهُ الْجنَّة، أُجِيب: بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ظن أَن عَمه اعْتقد أَن من آمن فِي مثل حَاله لَا يَنْفَعهُ إيمَانه إِذا لم يقارنه عمل سواهُ من صَلَاة أَو صِيَام وَحج وشرائط الْإِسْلَام كلهَا، فَأعلمهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن من قَالَ: لَا إلاه إلَاّ الله، عِنْد مَوته أَنه يدْخل فِي جملَة الْمُؤمنِينَ، وَإِن تعرى من عمل سواهَا. قلت: فِي قَوْله: وَحج، نظر لِأَنَّهُ لم يكن مَفْرُوضًا بِالْإِجْمَاع يَوْمئِذٍ. وَقيل: أَن يكون أَبُو طَالب قد عاين أَمر الْآخِرَة وأيقن بِالْمَوْتِ وَصَارَ فِي حَالَة من لَا ينْتَفع بِالْإِيمَان لَو آمن، فَرحا لَهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن قَالَ: لَا إلاه إلَاّ الله، وأيقن بنبوته أَن يشفع لَهُ بذلك، ويحاج لَهُ عِنْد الله تَعَالَى فِي أَن يتَجَاوَز عَنهُ وَيقبل مِنْهُ إيمَانه فِي تِلْكَ الْحَال، وَيكون ذَلِك خَاصّا بِأبي طَالب وَحده لمكانته من حمايته ومدافعته عَنهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقيل: كَانَ أَبُو طَالب مِمَّن عاين براهين النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَصدق بمعجزاته وَلم يشك فِي صِحَة نبوته، فرجا لَهُ المحاجة بِكَلِمَة الْإِخْلَاص حَتَّى يسْقط عَنهُ إِثْم العناد والتكذيب، لما قد تبين حَقِيقَته لَكِن آنسه، بقوله: (أُحَاج لَك بهَا عِنْد الله) لِئَلَّا يتَرَدَّد فِي الْإِيمَان وَلَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ لتماديه على خلاف مَا تبين حَقِيقَته، وَقيل: (أُحَاج لَك بهَا) ، كَقَوْلِه (أشهد لَك بهَا عِنْد الله) لِأَن الشَّهَادَة للمرء حجَّة لَهُ فِي طلب حَقه، وَلذَلِك ذكر البُخَارِيّ هُنَا الشَّهَادَة لِأَنَّهُ أقرب التَّأْوِيل فِي قصَّة أبي طَالب فِي كتاب الْبَعْث، لاحتمالها التَّأْوِيل. وَوَقع عِنْد إِبْنِ إِسْحَاق: أَن الْعَبَّاس قَالَ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا ابْن أخي، إِن الْكَلِمَة الَّتِي عرضتها على عمك سمعته يَقُولهَا، فَقَالَ لَهُ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لم أسمع. قَالَ السُّهيْلي: لِأَن الْعَبَّاس قَالَ ذَلِك فِي حَال كَونه على غير الْإِسْلَام، وَلَو أَدَّاهَا بعد الْإِسْلَام لقبلت مِنْهُ، كَمَا قبل من جُبَير بن مطعم حَدِيثه الَّذِي سَمعه فِي حَال كفره وَأَدَّاهُ فِي الْإِسْلَام.
١٨ - (بابُ الجَرِيدِ عَلَى القَبْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وضع الجريد على قبر الْمَيِّت، والجريد الَّذِي يجرد عَنهُ الخوص.
وَأوْصَى بُرَيْدَةُ الأسْلَمِيُّ أنْ يُجْعَلَ فِي قَبْرِهِ جَرِيدَانِ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَبُرَيْدَة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الدَّال الْمُهْملَة: ابْن الْحصيب، بِضَم الْحَاء وَفتح الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ: ابْن عبد الله الْأَسْلَمِيّ، مَاتَ بمرو سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ، وَقد تقدم فِي: بَاب من ترك الْعَصْر، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن سعد من طَرِيق مُورق الْعجلِيّ قَالَ: أوصى بُرَيْدَة أَن يوضع فِي قَبره جريدان. وَقَوله: (فِي قَبره) رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: (على قَبره) ، وَالْحكمَة فِي ذَلِك، على رِوَايَة الْأَكْثَرين، التفاؤل ببركة النَّخْلَة. لقَوْله تَعَالَى: {كشجرة طيبَة} (إِبْرَاهِيم: ٤٢) . وعَلى رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي الِاقْتِدَاء بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي وَضعه الجريدتين على الْقَبْر، وَسَنذكر الْحِكْمَة فِيهِ عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute