للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

معنى الْوُجُوب فيهمَا مَعَ اخْتِلَاف الثَّنَاء بِالْخَيرِ وَالشَّر. قَوْله: (أَيّمَا مُسلم) إِلَى آخِره، مقول قَول النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَوْله: (شهد لَهُ أَرْبَعَة) أَي: أَرْبَعَة من الْمُسلمين، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: ثَلَاثَة، كَمَا ذكرنَا. فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي اخْتِلَاف هَذَا الْعدَد حَيْثُ جَاءَ أَرْبَعَة وَثَلَاثَة وَاثْنَانِ؟ قلت: لاخْتِلَاف الْمعَانِي، لِأَن الثَّنَاء قد يكون بِالسَّمَاعِ الفاشي على الْأَلْسِنَة فاستحب فِي ذَلِك التَّوَاتُر وَالْكَثْرَة، وَالشَّهَادَة لَا تكون إلَاّ بالمعرفة بأحوال الْمَشْهُود لَهُ، فَيَأْتِي فِي ذَلِك أَرْبَعَة شُهَدَاء، لِأَن ذَلِك أَعلَى مَا يكون من الشَّهَادَة، أَلا يرى أَن الله تَعَالَى جعل فِي الزِّنَى أَرْبَعَة شُهَدَاء، فَإِن قصروا يَأْتِي فِيهِ ثَلَاثَة، فَإِن قصروا فِيهِ يَأْتِي فِيهِ شَاهِدَانِ؟ لِأَن ذَلِك أقل مَا يَجْزِي فِي الشَّهَادَة على سَائِر الْحُقُوق رَحْمَة من الله تَعَالَى لِعِبَادِهِ الْمُؤمنِينَ، وتجاوزا عَنْهُم حَيْثُ أجْرى أُمُورهم فِي الْآخِرَة على نمط أُمُورهم فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا، وَلِهَذَا لم يسْأَلُوا النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن الْوَاحِد، حَيْثُ قَالَ: (ثمَّ لم نَسْأَلهُ عَن الْوَاحِد) أَي: ثمَّ لم نسْأَل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ثَنَاء الشَّخْص الْوَاحِد: هَل يَكْتَفِي بِهِ؟ وَذَلِكَ أَن هَذَا الْمقَام مقَام عَظِيم فَلَا يَكْتَفِي فِيهِ بِأَقَلّ من النّصاب. فَإِن قلت: هَل يخْتَص الثَّنَاء الَّذِي ينفع الْمَيِّت بِالرِّجَالِ أم يشْتَرك فِيهِ الرِّجَال وَالنِّسَاء، فَإِذا قُلْنَا: يشتركون فِيهِ، فَهَل يَكْتَفِي فِي ذَلِك بامرأتين؟ أَو لَا بُد من رجل وَامْرَأَتَيْنِ أَو أَربع نسْوَة؟ قلت: الظَّاهِر الِاكْتِفَاء بِاثْنَيْنِ مُسلمين، وَإنَّهُ لَا يحْتَاج إِلَى قيام امْرَأتَيْنِ مقَام رجل وَاحِد، وروى الطَّبَرَانِيّ فِي مُعْجَمه الْكَبِير من رِوَايَة إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن قسطاس عَن سعد بن إِسْحَاق بن كَعْب بن عجْرَة عَن أَبِيه عَن جده قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمًا لأَصْحَابه: (مَا تَقولُونَ فِي رجل قتل فِي سَبِيل الله؟ قَالُوا: ألله وَرَسُوله أعلم. قَالَ الْجنَّة، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، قَالَ: فَمَا تَقولُونَ فِي رجل مَاتَ فَقَامَ رجلَانِ ذَوا عدل فَقَالَا: لَا نعلم إلَاّ خيرا؟ قَالُوا: الله وَرَسُوله أعلم. قَالَ: الْجنَّة إِن شَاءَ الله تَعَالَى، قَالَ: فَمَا تَقولُونَ فِي رجل مَاتَ فَقَامَ رجلَانِ ذَوا عدل، فَقَالَا: لَا نعلم خيرا، فَقَالُوا: النَّار، قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مذنب، وَالله غَفُور رَحِيم) . فقد يُقَال: لَا يكْتَفى بِشَهَادَة النِّسَاء، ألَا يُرى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكتف بِشَهَادَة الْمَرْأَة الَّتِي أثنت على عُثْمَان بن مَظْعُون بقولِهَا: شهادتي عَلَيْك أَبَا السَّائِب، فَقَالَ لَهَا: وَمَا يدْريك؟ وَقد يُجَاب عَنهُ: بِأَنَّهُ إِنَّمَا أنكر عَلَيْهَا الْقطع بِأَن الله أكْرمه، وَذَلِكَ مغيب عَنْهَا، بِخِلَاف الشَّهَادَة للْمَيت بأفعاله الجميلة الَّتِي كَانَ متلبسا بهَا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا، والْحَدِيث الَّذِي فِيهِ قَضِيَّة عُثْمَان بن مَظْعُون رَوَاهُ الْحَاكِم من حَدِيث حَارِثَة بن زيد: أَن أم الْعَلَاء امْرَأَة من الْأَنْصَار قد بَايَعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخْبرته أَنهم اقتسموا للمهاجرين قرعَة، فطار لنا عُثْمَان بن مَظْعُون فأنزلناه فِي أَبْيَاتنَا، فوجع وَجَعه الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَلَمَّا توفّي وَغسل وكفن فِي أثوابه دخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقلت: يَا عُثْمَان بن مَظْعُون، رَحْمَة الله عَلَيْك أَبَا السَّائِب، فشهادتي عَلَيْك، لقد أكرمك الله تَعَالَى، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَمَا يدْريك أَن الله أكْرمه؟ فَقلت: بِأبي أَنْت وَأمي يَا رَسُول الله، فَمن؟ فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أما هُوَ فقد جَاءَهُ الْيَقِين فوَاللَّه إِنِّي لأرجو لَهُ الْخَيْر وَالله مَا أَدْرِي وَأَنا رَسُول الله مَاذَا يفعل بِي قَالَت فوَاللَّه مَا أزكي بعده أحدا) . وَقَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ. فَإِن قلت: هَل يخْتَص الثَّنَاء الَّذِي ينفع الْمَيِّت بِكَوْنِهِ مِمَّن خالطه وَعرف حَاله أم هُوَ على عُمُومه؟ قلت: الظَّاهِر الأول بِدَلِيل قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي حَدِيث أنس الَّذِي رَوَاهُ أَبُو يعلى الْموصِلِي فِي (مُسْنده) بِإِسْنَاد صَحِيح، قَالَ: قَالَ رَسُول الله: (مَا من مُسلم يَمُوت فَيشْهد لَهُ أَرْبَعَة من أهل أَبْيَات من جِيرَانه الأدنين أَنهم لَا يعلمُونَ إلَاّ خيرا، إلَاّ قَالَ الله تَعَالَى: قد قبلت علمكُم وغرت لَهُ مَا لَا تعلمُونَ) . فَإِن قلت: هَل ينفع الثَّنَاء على الْمَيِّت بِالْخَيرِ وَإِن خَالف الْوَاقِع أم لَا بُد أَن يكون الثَّنَاء عَلَيْهِ مطابقا للْوَاقِع؟ قلت: قَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله: فِيهِ قَولَانِ للْعُلَمَاء أصَحهمَا أَن ذَلِك يَنْفَعهُ، وَأَن لم يُطَابق الْوَاقِع لِأَنَّهُ لَو كَانَ لَا يَنْفَعهُ إلَاّ بالموافقة لم يكن للثناء فَائِدَة، وَيُؤَيّد هَذَا مَا رَوَاهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) من رِوَايَة فرات بن السَّائِب عَن مَيْمُون بن مهْرَان عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِن العَبْد سيرزق الثَّنَاء والستر وَالْحب من النَّاس حَتَّى تَقول الْحفظَة: رَبنَا إِنَّك تعلم ونعلم غير مَا يَقُولُونَ، فَيَقُول: أشهدكم أَنِّي قد غفرت لَهُ مَا لَا يعلمُونَ، وَقبلت شَهَادَتهم على مَا يَقُولُونَ) . فَإِن قلت: الحَدِيث

<<  <  ج: ص:  >  >>