الثَّالِث: قَالَ عِيَاض: كن النَّاس، بِحَذْف الْهمزَة وَكسر الْكَاف وَتَشْديد النُّون: من كن يكن، وَهُوَ صِيغَة أَمر، وَأَصله أكن بِالْهَمْزَةِ حذفت تَخْفِيفًا على غير قِيَاس. الْوَجْه الرَّابِع: كن، بِضَم الْكَاف، من: كن فَهُوَ مَكْنُون، وَهَذَا لَهُ وَجه، وَلَكِن الرِّوَايَة لَا تساعده. قَوْله: (وَإِيَّاك) ، كلمة تحذير أَي: احذر من أَن تحمر. وَكلمَة: أَن، مَصْدَرِيَّة، ومفعول: تحمر، مَحْذُوف تَقْدِيره: إياك تحمير الْمَسْجِد أَو تصفيره، وَمرَاده الزخرفة. وَقد روى ابْن مَاجَه من طَرِيق عَمْرو بن مَيْمُون عَن عمر رَضِي اتعالى عَنهُ، مَرْفُوعا: (مَا سَاءَ عمل قوم قطّ إلَاّ زخرفوا مَسَاجِدهمْ) . قَوْله: (فتفتن النَّاس) ، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْفَاء: من فتن يفتن، من بَاب ضرب يضْرب، فتنا وفتوناً إِذا امتحنته، وَضَبطه ابْن التِّين بِضَم تَاء الْخطاب من أفتن، والأصمعي أنكر هَذَا، وَأَبُو عبيد أجَازه، وَقَالَ: فتن وافتن بِمَعْنى، وَهُوَ قَلِيل، والفتنة اسْم وَهُوَ فِي الأَصْل الامتحان والاختبار، ثمَّ كثر اسْتِعْمَالهَا بِمَعْنى الْإِثْم وَالْكفْر والقتال والإحراق والإزالة وَالصرْف عَن الشَّيْء. وَقَالَ الْكرْمَانِي: ويفتن من الْفِتْنَة، وَفِي بَعْضهَا من التفتين. قلت: إِذا كَانَ من التفتين يكون من بَاب التفعيل، وماضيه: فتن، بتَشْديد التَّاء، وعَلى ضبط ابْن التِّين يكون من بَاب الإفعال وَهُوَ الإفتان بِكَسْر الْهمزَة، وعَلى كل حَال هُوَ بِفَتْح النُّون لِأَنَّهُ مَعْطُوف على الْمَنْصُوب بِكَلِمَة. أَن.
وَقَالَ أنَسٌ يَتَبَاهَوْنَ بِهَا ثُمَّ لَا يَعْمُرُونَها إِلَاّ قَلِيلاً.
هَذَا التَّعْلِيق مَرْفُوع فِي (صَحِيح ابْن خُزَيْمَة) : عَن مُحَمَّد بن عَمْرو بن الْعَبَّاس حدّثنا سعيد بن عَامر عَن أبي عَامر الخراز قَالَ: قَالَ أَبُو قلَابَة: انطلقنا مَعَ أنس نُرِيد الزاوية، نعني قصر أنس، فمررنا بِمَسْجِد فَحَضَرت صَلَاة الصُّبْح فَقَالَ أنس: لَو صلينَا فِي هَذَا الْمَسْجِد، فَقَالَ بعض الْقَوْم: نأتي الْمَسْجِد الآخر، فَقَالَ أنس: إِن رَسُول الله قَالَ: (يَأْتِي على النَّاس زمَان يتباهون بالمساجد ثمَّ لَا يعمرونها إلَاّ قَلِيلا، أَو قَالَ: يعمرونها قَلِيلا) . وَرَوَاهُ أَبُو يعلى الْموصِلِي أَيْضا فِي (مُسْنده) ، وروى أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) : حدّثنا مُحَمَّد بن عبد االخزاعي حدّثنا حَمَّاد بن سَلمَة عَن أَيُّوب عَن أبي قلَابَة وَقَتَادَة عَن أنس: (إِن النَّبِي قَالَ: لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى يتباهي النَّاس فِي الْمَسَاجِد) . وَأخرجه النَّسَائِيّ وَابْن ماجة أَيْضا، وروى أَبُو نعيم فِي (كتاب الْمَسَاجِد) من حَدِيث مُحَمَّد بن مُصعب القرقساني: عَن حَمَّاد (يتباهى النَّاس بِبِنَاء الْمَسَاجِد) ، وَمن حَدِيث عَليّ بن حَرْب: عَن سعيد بن عَامر عَن الخراز: (يتباهون بِكَثْرَة الْمَسَاجِد) . قَوْله: (يتباهون) ، بِفَتْح الْهَاء من المباهاة وَهِي الْمُفَاخَرَة، وَالْمعْنَى أَنهم يزخرفون الْمَسَاجِد ويزينونها ثمَّ يقعودن فِيهَا ويتمارون ويتباهون وَلَا يشتغلون بِالذكر وَقِرَاءَة الْقُرْآن وَالصَّلَاة. قَوْله: (بهَا) ، أَي: بالمساجد، والسياق يدل عَلَيْهِ. قَوْله: (إلَاّ قَلِيلا) ، بِالنّصب، وَيجوز الرّفْع من جِهَة النَّحْو، فَإِنَّهُ بدل من ضمير الْفَاعِل.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ لَتُزَخْرِفُنَّهَا كَمَا زَخْرَفَتِ اليَهُودُ والنَّصَارَى.
هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مَوْصُولا عَن ابْن عَبَّاس هَكَذَا مَوْقُوفا، وَرُوِيَ عَنهُ مَرْفُوعا، قَالَ: حدّثنا مُحَمَّد بن الصَّباح عَن سُفْيَان أخبرنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن أبي فَزَارَة عَن يزِيد بن الْأَصَم عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ رَسُول ا: (مَا أمرت بتشييد الْمَسَاجِد) . قَالَ ابْن عَبَّاس: لتزخرفنها كَمَا زخرفت الْيَهُود وَالنَّصَارَى، وَأَبُو فَزَارَة اسْمه رَاشد ابْن كيسَان، وَإِنَّمَا اقْتصر البُخَارِيّ على الْمَوْقُوف مِنْهُ وَلم يذكر الْمَرْفُوع مِنْهُ للِاخْتِلَاف على يزِيد بن الْأَصَم فِي وَصله وإرساله، وَيزِيد هَذَا روى لَهُ مُسلم وَالْأَرْبَعَة. قَوْله: (لتزخرفنها) أَي: لتزخرفن الْمَسَاجِد، بِضَم الْفَاء وَنون التَّأْكِيد، والضيمر فِيهِ للمذكرين. وَأما اللَّام فِيهِ فقد ذكر الطَّيِّبِيّ فِيهِ وَجْهَيْن. الأول: أَن تكون مَكْسُورَة، وَهِي لَام التَّعْلِيل للنَّفْي قبله، وَالْمعْنَى: مَا أمرت بتشييد الْمَسَاجِد لأجل زخرفتها، والتشييد من شيد يشيد: رفع الْبناء والإحكام، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَلَو كُنْتُم فِي بروج مشيدة} (النِّسَاء: ٨٧) . الْوَجْه الثَّانِي: فتح اللَّام على أَنَّهَا جَوَاب الْقسم، وَقَالَ بَعضهم: هَذَا هُوَ الْمُعْتَمد، وَالْأول لم تثبت بِهِ الرِّوَايَة أصلا. قلت: الَّذِي قَالَه الطَّيِّبِيّ هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْكَلَام، وَلَا وَجه لمَنعه، وَدَعوى عدم ثُبُوت الرِّوَايَة يحْتَاج إِلَى برهَان. وَمعنى الزخرفة: التزيين، يُقَال: زخرف الرجل كَلَامه إِذا موهه وزينه بِالْبَاطِلِ، والزخرف: الذَّهَب، وَالْمعْنَى هَهُنَا: تمويه الْمَسَاجِد بِالذَّهَب وَنَحْوه كَمَا زخرفت الْيَهُود كنائسهم وَالنَّصَارَى بيعهم. قَالَ الْخطابِيّ: وَإِنَّمَا زخرفت الْيَهُود وَالنَّصَارَى كنائسها وَبَيْعهَا حِين حرفت الْكتب وبدلتها فضيعوا الدّين وعرجوا على الزخاريف والتزيين. وَقَالَ محيي السّنة: إِنَّهُم زخرفوا الْمَسَاجِد عِنْد مَا بدلُوا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute