(بَيَان الْمعَانِي وَالْبَيَان) : لَا شكّ أَن تَعْرِيف الْمسند إِلَيْهِ إِنَّمَا يقْصد إِلَى تَعْرِيفه لإتمام فَائِدَة السَّامع، لِأَن فَائِدَته من الْخَبَر إِمَّا الحكم أَو لَازمه، كَمَا بَين فِي مَوْضِعه وَفِيه الْفَصْل بَين الجملتين بِالْوَاو، لِأَنَّهُ قصد التَّشْرِيك وَتَعْيِين الْوَاو لدلالتها على الْجمع، وَفِيه تَشْبِيه الْإِيمَان بشجرة ذَات أَغْصَان، وَشعب، كَمَا شبه فِي الحَدِيث السَّابِق الْإِسْلَام بخباء ذَات أعمدة وأطناب، ومبناه على الْمجَاز، وَذَلِكَ لِأَن الْإِيمَان فِي اللُّغَة التَّصْدِيق، وَفِي عرف الشَّرْع: تَصْدِيق الْقلب وَاللِّسَان، وَتَمَامه وكماله بالطاعات، فحينئذٍ الْإِخْبَار عَن الْإِيمَان بِأَنَّهُ بضع وَسِتُّونَ شُعْبَة، أَو بضع وَسَبْعُونَ، وَنَحْو ذَلِك يكون من بَاب إِطْلَاق الأَصْل على الْفَرْع، وَذَلِكَ لِأَن الْإِيمَان هُوَ الأَصْل، والأعمال فروع مِنْهُ. وَإِطْلَاق الْإِيمَان على الْأَعْمَال مجَاز، لِأَنَّهَا تكون عَن الْإِيمَان، وَقد اتّفق أهل السّنة من الْمُحدثين وَالْفُقَهَاء والمتكلمين على أَن الْمُؤمن الَّذِي يحكم بإيمانه، وَأَنه من أهل الْقبْلَة، وَلَا يخلد فِي النَّار، هُوَ الَّذِي يعْتَقد بِقَلْبِه دين الْإِسْلَام اعتقاداً جَازِمًا خَالِيا من الشكوك، ونطق بِالشَّهَادَتَيْنِ، فَإِن اقْتصر على أَحدهمَا لم يكن من أهل الْقبْلَة إلَاّ إِذا عجز عَن النُّطْق، فَإِنَّهُ يكون مُؤمنا إلاّ مَا حَكَاهُ القَاضِي عِيَاض فِي (كتاب الشِّفَاء) فِي أَن: من اعْتقد دين الْإِسْلَام بِقَلْبِه، وَلم ينْطق بِالشَّهَادَتَيْنِ من غير عذر مَنعه من القَوْل، إِن ذَلِك نافعه فِي الدَّار الْآخِرَة، على قَول ضَعِيف. وَقد يكون فائزاً، لكنه غير الْمَشْهُور، وَالله أعلم.
(بَيَان استنباط الْفَوَائِد) وَهُوَ على وُجُوه. الأول: فِي تعْيين السِّتين على مَا جَاءَ هَهُنَا، وَفِي تعْيين السّبْعين على مَا جَاءَ فِي رِوَايَة أُخْرَى من (الصَّحِيح) ، وَرِوَايَة أَصْحَاب السّنَن، أما الْحِكْمَة فِي تعْيين السِّتين وتخصيصها، فَهِيَ: أَن الْعدَد إِمَّا زَائِد: وَهُوَ مَا أجزاؤه أَكثر مِنْهُ، كالاثني عشر، فَإِن لَهَا: نصفا وَثلثا وربعاً وسدساً وَنصف سدس، ومجموع هَذِه الْأَجْزَاء أَكثر من اثْنَي عشر، فَإِنَّهُ سِتَّة عشر، وَإِمَّا نَاقص: وَهُوَ مَا أجزاؤه أقل مِنْهُ، كالأربعة فَإِن لَهَا: الرّبع وَالنّصف فَقَط، وَإِمَّا تَامّ: وَهُوَ مَا أجزاؤه مثله كالستة، فَإِن أجزاءها: النّصْف وَالثلث وَالسُّدُس، وَهِي مُسَاوِيَة للستة، وَالْفضل من بَين الْأَنْوَاع الثَّلَاثَة للتام، فَلَمَّا أُرِيد الْمُبَالغَة فِيهِ جعلت آحادها أعشاراً، وَهِي: السِّتُّونَ. وَأما الْحِكْمَة فِي تعْيين السّبْعين فَهِيَ: أَن السَّبْعَة تشْتَمل على جملَة أَقسَام الْعدَد، فَإِنَّهُ يَنْقَسِم إِلَى: فَرد وَزوج، وكل مِنْهُمَا إِلَى: أول ومركب، والفرد الأول: ثَلَاثَة، والمركب: خَمْسَة، وَالزَّوْج الأول: اثْنَان، والمركب: أَرْبَعَة، وينقسم أَيْضا إِلَى منطق كالأربعة، وأصم كالستة، فَلَمَّا أُرِيد الْمُبَالغَة فِيهِ جعلت آحادها أعشاراً. وَهِي: السبعون. وَأما زِيَادَة الْبضْع على النَّوْعَيْنِ فقد علم أَنه يُطلق على السِّت وعَلى السَّبع، لِأَنَّهُ مَا بَين اثْنَيْنِ إِلَى عشرَة، وَمَا فَوْقهَا كَمَا نَص عَلَيْهِ صَاحب (الموعب) فَفِي الأول السِّتَّة أصل للستين وَفِي الثَّانِي، السَّبْعَة أصل للسبعين، كَمَا ذَكرْنَاهُ، فَهَذَا وَجه تعْيين أحد هذَيْن العددين. الثَّانِي: أَن المُرَاد من هذَيْن العددين: هَل هُوَ حَقِيقَة أم ذكرا على سَبِيل الْمُبَالغَة؟ فَقَالَ بَعضهم: أُرِيد بِهِ التكثير دون التعديد، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن تستغفر لَهُم سبعين مرّة} (التَّوْبَة: ٨٠) وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: الْأَظْهر معنى التكثير، وَيكون ذكر الْبضْع للترقي، يَعْنِي أَن شعب الْأَيْمَان أعداد مُبْهمَة وَلَا نِهَايَة لكثرتها، إِذْ لَو أُرِيد التَّحْدِيد لم يبهم. وَقَالَ بَعضهم: الْعَرَب تسْتَعْمل السّبْعين كثيرا فِي بَاب الْمُبَالغَة، وَزِيَادَة السَّبع عَلَيْهَا الَّتِي عبر عَنْهَا بالبضع لأجل أَن السَّبْعَة أكمل الْأَعْدَاد، لِأَن السِّتَّة أول عدد تَامّ، وَهِي مَعَ الْوَاحِد سَبْعَة، فَكَانَت كَامِلَة، إِذْ لَيْسَ بعد التَّمام سوى الْكَمَال. وَسمي الْأسد: سَبُعاً لكَمَال قوته، وَالسَّبْعُونَ غَايَة الْغَايَة إِذْ الْآحَاد غايتها العشرات. فَإِن قلت: قد قلت: إِن الْبضْع لما بَين اثْنَيْنِ إِلَى عشرَة وَمَا فَوْقهَا، فَمن أَيْن تَقول: إِن المُرَاد من الْبضْع السَّبع حَتَّى بنى الْقَائِل الْمَذْكُور كَلَامه على هَذَا؟ قلت: قد نَص صَاحب (الْعين) على: أَن الْبضْع سَبْعَة، كَمَا ذكرنَا، وَقَالَ بَعضهم: هَذَا الْقدر الْمَذْكُور هُوَ شعب الْإِيمَان، وَالْمرَاد مِنْهُ تعداد الْخِصَال حَقِيقَة. فَإِن قلت: إِذا كَانَ المُرَاد بَيَان تعداد الْخِصَال، فَمَا الِاخْتِلَاف الْمَذْكُور؟ قلت: يجوز أَن يكون شعب الْإِيمَان بضعاً وَسِتِّينَ وَقت تنصيصه على هَذَا الْمِقْدَار، فَذكره لبَيَان الْوَاقِع، ثمَّ بعد ذَلِك نَص على بضع وَسبعين، بِحَسب تعدد الْعشْرَة على ذَلِك الْمِقْدَار، فَافْهَم، فَإِنَّهُ مَوضِع فِيهِ دقة. الثَّالِث: فِي بَيَان الْعدَد الْمَذْكُور قَالَ الإِمَام أَبُو حَاتِم بن حبَان بِكَسْر الْحَاء وَتَشْديد الْمُوَحدَة، البستي، فِي كتاب (وصف الْإِيمَان وشعبه) تتبعت معنى هَذَا الحَدِيث مُدَّة، وعددت الطَّاعَات فَإِذا هِيَ تزيد على هَذَا الْعدَد شَيْئا كثيرا، فَرَجَعت إِلَى السّنَن، فعددت كل طَاعَة عَددهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من الْإِيمَان، فَإِذا هِيَ تنقص على الْبضْع وَالسبْعين، فَرَجَعت إِلَى كتاب الله تَعَالَى، فعددت كل طَاعَة عدهَا الله من الْإِيمَان فَإِذا هِيَ تنقص عَن الْبضْع وَالسبْعين، فضممت إِلَى الْكتاب السّنَن، واسقطت الْعَاد، فَإِذا كل شَيْء عده الله وَرَسُوله عَلَيْهِ السَّلَام، من الْإِيمَان بضع وَسَبْعُونَ، لَا يزِيد عَلَيْهَا وَلَا ينقص.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute