فالتقدير: فديتك بِأبي، وَحذف تَخْفِيفًا لِكَثْرَة الِاسْتِعْمَال، وَعلم الْمُخَاطب بِهِ، وَفِيه تفدية الشَّارِع بِالْآبَاءِ والأمهات. وَهل يجوز تفدية غَيره من الْمُؤمنِينَ؟ فِيهِ مَذَاهِب أَصَحهَا: نعم بِلَا كَرَاهَة. وَثَانِيها: الْمَنْع، وَذَلِكَ خَاص بِهِ. وَثَالِثهَا: يجوز تفدية الْعلمَاء الصَّالِحين الأخيار دون غَيرهم. قَوْله: (إسكاتك) بِكَسْر الْهمزَة، قَالَ بَعضهم: وَهُوَ بِالرَّفْع على الِابْتِدَاء وَلم يبين خَبره، وَالصَّحِيح أَنه بِالنّصب على أَنه مفعول: فعل، مُقَدّر أَي: أَسأَلك إسكاتك مَا تَقول فِيهِ؟ ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أَو مَنْصُوب بِنَزْع الْخَافِض، أَي: مَا تَقول فِي إسكاتك؟ وَوَقع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والسرخسي بِفَتْح الْهمزَة وَضم السِّين على الِاسْتِفْهَام، وَفِي رِوَايَة الْحميدِي: (مَا تَقول فِي سكتتك بَين التَّكْبِير وَالْقِرَاءَة؟) وَلمُسلم: (أَرَأَيْت سكوتك؟) وَكَذَا فِي رِوَايَة أبي دَاوُد، وَمَعْنَاهُ: أَخْبرنِي سكوتك. قَوْله: (مَا تَقول؟) أَي: فِيهَا. قيل: السُّكُوت منَاف، لِلْقَوْلِ، فَكيف يَصح أَن يُقَال مَا تَقول فِي سكوتك؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ يحْتَمل أَنه اسْتدلَّ على أصل القَوْل بحركة الْفَم، كَمَا اسْتدلَّ بِهِ على قِرَاءَة الْقُرْآن فِي الظّهْر وَالْعصر باضطراب اللِّحْيَة. قَوْله: (باعد) بِمَعْنى: أبعد، قَالَ الْكرْمَانِي: أخرجه إِلَى صِيغَة المفاعلة للْمُبَالَغَة. قلت: لم يقل أهل التصريف إلاّ للتكثير، نَحْو: ضاعفت، بِمَعْنى ضعفت. . وَفِي الْمُبَالغَة معنى التكثير. قَوْله: (خطاياي) ، جمع خطية كالعطايا جمع عَطِيَّة، يُقَال: خطأ فِي دينه خطأ إِذا أَثم فِيهِ، وَالْخَطَأ بِالْكَسْرِ الذَّنب وَالْإِثْم، وأصل خَطَايَا خطايىء، فقلبوا الْيَاء همزَة كَمَا فِي قبائل جمع قَبيلَة، فَصَارَ خطأيء بهمزتين، فقلبوا الثَّانِيَة يَاء فَصَارَ: خطائي، ثمَّ قلبت الْهمزَة يَاء مَفْتُوحَة فَصَارَت: خطايي، فقلبت الْيَاء فَصَارَ: خَطَايَا: إِن كَانَ يُرَاد بهَا اللاحقة فَمَعْنَاه إِذا قدر لي ذَنْب فباعد بيني وَبَينه، وَإِن كَانَ يُرَاد بهَا السَّابِقَة فَمَعْنَاه المحو والغفران، وَيُقَال: المُرَاد بالمباعدة محو مَا حصل مِنْهَا والعصمة عَمَّا سَيَأْتِي مِنْهَا، وَهَذَا مجَاز، لِأَن حَقِيقَة المباعدة إِنَّمَا هِيَ فِي الزَّمَان وَالْمَكَان. قَوْله: (كَمَا باعدت) كلمة: مَا، مَصْدَرِيَّة تَقْدِيره: كتبعيدك بَين الْمشرق وَالْمغْرب، وَوجه الشّبَه أَن التقاء الْمشرق وَالْمغْرب لما كَانَ مستحيلاً شبه أَن يكون اقترابه من الذَّنب كاقتراب الْمشرق وَالْمغْرب. وَقَالَ الْكرْمَانِي: كرر لفظ: الْبَين، فِي قَوْله: (وباعد بيني وَبَين خطاياي) ، وَلم يُكَرر: بَين الْمشرق وَالْمغْرب، لِأَنَّهُ إِذا عطف على الْمُضمر الْمَجْرُور أُعِيد الْخَافِض. قلت: يرد عَلَيْهِ قَوْله: بَين التَّكْبِير وَبَين الْقِرَاءَة. قَوْله: (نقني) بتَشْديد الْقَاف وَهُوَ أَمر من: نقى ينقي تنقية، وَهُوَ مجَاز عَن إِزَالَة الذُّنُوب ومحو أَثَرهَا. قَوْله: (من الدنس) بِفَتْح النُّون وَهُوَ: الْوَسخ. قَوْله: (كَمَا ينقى الثَّوْب الْأَبْيَض) ، وَإِنَّمَا شبه بِهِ لِأَن الثَّوْب الْأَبْيَض أظهر من غَيره من الألوان. قَوْله: (وَالْبرد) بِفَتْح الرَّاء، وَهُوَ حب الْغَمَام. قَالَ الْكرْمَانِي: الْغسْل الْبَالِغ إِنَّمَا يكون بِالْمَاءِ الْحَار، فَلم ذكر كَذَلِك؟ فَأجَاب نَاقِلا عَن مُحي السّنة: مَعْنَاهُ طهرني من الذُّنُوب، وذكرهما مُبَالغَة فِي التَّطْهِير، وَقَالَ الْخطابِيّ: هَذِه أَمْثَال، وَلم يرد بهَا أَعْيَان هَذِه المسميات، وَإِنَّمَا أَرَادَ بهَا التوكيد فِي التَّطْهِير من الْخَطَايَا وَالْمُبَالغَة فِي محوها عَنهُ، والثلج وَالْبرد مَا أَن لم تمسهما الْأَيْدِي وَلم يمتهنهما اسْتِعْمَال، فَكَانَ ضرب الْمثل بهما أوكد فِي بَيَان معنى مَا أَرَادَهُ من تَطْهِير الثَّوْب. وَقَالَ التوربشتي: ذكر أَنْوَاع المطهرات الْمنزلَة من السَّمَاء الَّتِي لَا يُمكن حُصُول الطَّهَارَة الْكَامِلَة إلاّ بأحدها، بَيَانا لأنواع الْمَغْفِرَة الَّتِي لَا تخلص من الذُّنُوب إلاّ بهَا، أَي: طهرني بأنواع مغفرتك الَّتِي هِيَ فِي تمحيص الذُّنُوب بِمَثَابَة هَذِه الْأَنْوَاع الثَّلَاثَة فِي إِزَالَة الأرجاس وَرفع الْأَحْدَاث. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: يُمكن أَن يُقَال: ذكر الثَّلج وَالْبرد بعد ذكر المَاء لطلب شُمُول الرَّحْمَة بعد الْمَغْفِرَة والتركيب من بَاب: رَأَيْته مُتَقَلِّدًا سَيْفا ورمحا، أَي: إغسل خطاياي بِالْمَاءِ أَي: اغفرها، وزد على الغفران شُمُول الرَّحْمَة. طلب أَولا المباعدة بَينه وَبَين الْخَطَايَا، ثمَّ طلب تنقية مَا عَسى أَن يبْقى مِنْهَا شَيْء تنقية تَامَّة، ثمَّ سَأَلَ ثَالِثا بعد الغفران غَايَة الرَّحْمَة عَلَيْهِ بعد التَّخْلِيَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَالْأَقْرَب أَن يَقُول: جعل الْخَطَايَا بِمَنْزِلَة نَار جَهَنَّم لِأَنَّهَا مستوجبة لَهَا بِحَسب وعد الشَّارِع، قَالَ تَعَالَى: {وَمن يعْص الله وَرَسُوله فَإِن لَهُ نَار جَهَنَّم} (الْجِنّ: ٢٣) . فَعبر عَن إطفاء حَرَارَتهَا بِالْغسْلِ تَأْكِيدًا فِي الإطفاء، وَبَالغ فِيهِ بِاسْتِعْمَال المبردات ترقيا عَن المَاء إِلَى أبرد مِنْهُ، وَهُوَ الثَّلج ثمَّ إِلَى أبرد من الثَّلج وَهُوَ الْبرد، بِدَلِيل جموده لِأَن مَا هُوَ أبرد فَهُوَ أجمد. وَأما تثليث الدَّعْوَات فَيحْتَمل أَن يكون نظرا إِلَى الْأَزْمِنَة الثَّلَاثَة، فالمباعدة للمستقبل والتنقية للْحَال وَالْغسْل للماضي.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: ذكر البُخَارِيّ لهَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب دَلِيل على أَنه يرى الاستفتاح بِهَذَا، وَقد اخْتلف النَّاس فِيمَا يستفتح بِهِ الصَّلَاة. فَأَبُو حنيفَة وَأحمد يريان الاستفتاح بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه. فَأَبُو دَاوُد
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute