أَخذ على النِّسَاء) ، فَهَذِهِ أَدِلَّة صَرِيحَة فِي أَن هَذِه الْبيعَة إِنَّمَا صدرت بعد نزُول الْآيَة، بل بعد فتح مَكَّة، وَذَلِكَ بعد إِسْلَام أبي هُرَيْرَة وَيُؤَيّد هَذَا مَا رَوَاهُ ابْن أبي خَيْثَمَة، عَن أَبِيه، عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الطفَاوِي، عَن أَيُّوب، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أُبَايِعكُم على أَن لَا تُشْرِكُوا بِاللَّه شَيْئا) . فَذكر مثل حَدِيث عبَادَة، وَرِجَاله ثِقَات. وَقد قَالَ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه: إِذا صَحَّ الْإِسْنَاد إِلَى عَمْرو بن شُعَيْب فَهُوَ كأيوب عَن نَافِع عَن ابْن عمر انْتهى.
وَإِذا كَانَ عبد الله بن عمر وَاحِد من حضر هَذِه الْبيعَة وَلَيْسَ هُوَ من الْأَنْصَار، وَلَا مِمَّن حضر بيعتهم بمنى، صَحَّ تغاير البيعتين: بيعَة الْأَنْصَار لَيْلَة الْعقبَة وَهِي قبل الْهِجْرَة إِلَى الْمَدِينَة، وبيعة أُخْرَى وَقعت بعد فتح مَكَّة وشهدها عبد الله بن عمر وَكَانَ إِسْلَامه بعد الْهِجْرَة، وَإِنَّمَا حصل الالتباس من جِهَة أَن عبَادَة بن الصَّامِت حضر البيعتين مَعًا، وَكَانَت بيعَة الْعقبَة من أجل مَا يتمدح بِهِ، فَكَانَ يذكرهَا إِذا حدث تنويهاً بسابقته، فَلَمَّا ذكر هَذِه الْبيعَة الَّتِي صدرت على مثل بيعَة النِّسَاء عقب ذَلِك، توهم من لم يقف على حَقِيقَة الْحَال أَن الْبيعَة الأولى وَقعت على ذَلِك. انْتهى كَلَامه.
قلت: فِيهِ نظر من وُجُوه. الأول: أَن قَوْله: ويبطله، أَن أَبَا هُرَيْرَة صرح بِسَمَاعِهِ غير مُسلم من وَجْهَيْن: أَحدهمَا، أَنه يحْتَمل أَن يكون أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ، سمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَعْدَمَا سَمعه من صَحَابِيّ آخر، فَلذَلِك صرح بِالسَّمَاعِ، وَهَذَا غير مَمْنُوع وَلَا محَال؛ وَالْآخر: أَنه يحْتَمل أَنه صرح بِالسَّمَاعِ لتوثقه بِالسَّمَاعِ من صَحَابِيّ آخر، فَإِن الصَّحَابَة كلهم عدُول لَا يتَوَهَّم فيهم الْكَذِب. الثَّانِي: أَن قَوْله: وَإِن الْحُدُود لم تكن نزلت إِذْ ذَاك، لَا يلْزم من عدم نزُول الْحُدُود فِي تِلْكَ الْحَالة انْتِفَاء كَون الْحُدُود كَفَّارَات فِي الْمُسْتَقْبل، غَايَة مَا فِي الْبَاب أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخبر فِي حَدِيث عبَادَة أَن من أصَاب مِمَّا يجب فِيهِ الْحُدُود الَّتِي تنزل عَلَيْهَا بعد هَذَا، ثمَّ عُوقِبَ بِسَبَب ذَلِك بِأَن أَخذ مِنْهُ الْحَد، فَإِن ذَلِك الْحَد يكون كَفَّارَة لَهُ، وَلَا شكّ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يعلم قبل نزُول الْحُدُود أَن حَال أمته لَا تستقيم إلَاّ بالحدود، فَأخْبر فِي حَدِيث عبَادَة بِنَاء على مَا كَانَ على مَا كَانَ علمه قبل الْوُقُوع. الثَّالِث: أَن قَوْله: وَالْحق عِنْدِي أَن حَدِيث أبي هُرَيْرَة صَحِيح، غير مُسلم، لِأَن الحَدِيث أخرجه الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) وَالْبَزَّار فِي (مُسْنده) من رِوَايَة معمر عَن ابْن أبي ذِئْب، عَن سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة، وَقَالَ الْحَاكِم: صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ، وَقد علم مساهلة الْحَاكِم فِي بَاب التَّصْحِيح، على أَن الدَّارَقُطْنِيّ قَالَ: إِن عبد الرَّزَّاق تفرد بوصله، وَإِن هِشَام بن يُوسُف رَوَاهُ عَن معمر فَأرْسلهُ، فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك فَمَتَى يُسَاوِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت حَتَّى يَقع بَينهمَا تعَارض فَيحْتَاج إِلَى الْجمع والتوفيق؟ فَإِن قلت: قد وَصله آدم بن أبي إِيَاس، عَن ابْن أبي ذِئْب أخرجه الْحَاكِم أَيْضا. قلت: وَلَو وَصله، هُوَ أَو غَيره، فَإِن قطع غَيره مِمَّا يُورث عدم التَّسَاوِي بِحَدِيث عبَادَة، وَصِحَّة حَدِيث عبَادَة مُتَّفق عَلَيْهَا بِخِلَاف حَدِيث أبي هُرَيْرَة على مَا نَص عَلَيْهِ القَاضِي عِيَاض وَغَيره، فَلَا تَسَاوِي، فَلَا تعَارض، فَلَا احْتِيَاج إِلَى التَّكَلُّف بِالْجمعِ والتوفيق. الرَّابِع: أَن قَوْله: والمبايعة الْمَذْكُورَة فِي حَدِيث عبَادَة على الصّفة الْمَذْكُورَة لم تقع لَيْلَة الْعقبَة، غير مُسلم، لِأَن القَاضِي عِيَاض وَجَمَاعَة من الْأَئِمَّة الأجلاء قد جزموا بِأَن حَدِيث عبَادَة هَذَا كَانَ بِمَكَّة لَيْلَة الْعقبَة لما بَايع الْأَنْصَار رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْبيعَة الأولى بمنى.
وَنُقِيم بِصِحَّة مَا قَالُوا دَلَائِل. مِنْهَا: أَنه ذكر فِي هَذَا الحَدِيث: (وَحَوله عِصَابَة) . وفسروا أَن الْعِصَابَة هم النُّقَبَاء الأثني عشر، وَلم يكن غَيرهم هُنَاكَ، وَالدَّلِيل على صِحَة هَذَا مَا فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ فِي حَدِيث عبَادَة هَذَا:(قَالَ: بَايَعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة الْعقبَة فِي رَهْط) ، الحَدِيث: وَقد قَالَ أهل اللُّغَة: إِن الرَّهْط: مَا دون الْعشْرَة من الرِّجَال لَا يكون فيهم امْرَأَة. قَالَ الله تَعَالَى:{وَكَانَ فِي الْمَدِينَة تِسْعَة رَهْط}(النَّمْل: ٤٨) قَالَ ابْن دُرَيْد رُبمَا جَاوز ذَلِك قَلِيلا، قَالَه فِي (الْعباب) والقليل ضد الْكثير، وَأَقل الْكثير ثَلَاثَة، وَأكْثر الْقَلِيل اثْنَان، فَإِذا أضفنا الْإِثْنَيْنِ إِلَى التِّسْعَة يكون أحد عشر، وَكَانَ المُرَاد من الرَّهْط هُنَا أحد عشر نَقِيبًا، وَمَعَ عبَادَة يكونُونَ اثْنَي عشر نَقِيبًا، فَإِذا ثَبت هَذَا فقد دلّ قطعا أَن هَذِه الْمُبَايعَة كَانَت بِمَكَّة لَيْلَة الْعقبَة الْبيعَة الأولى، لِأَن الْبيعَة الَّتِي وَقعت بعد فتح مَكَّة على زعم هَذَا الْقَائِل كَانَ فِيهَا الرِّجَال وَالنِّسَاء وَكَانُوا بعد كثير. وَالثَّانِي: أَن قَوْله لَيْلَة الْعقبَة دَلِيل على أَن هَذِه الْبيعَة كَانَت هِيَ الأولى، لِأَنَّهُ لم يذكر فِي بَقِيَّة الْأَحَادِيث لَيْلَة الْعقبَة، وَإِنَّمَا ذكر فِي حَدِيث الطَّبَرَانِيّ يَوْم فتح مَكَّة، وَلَا يلْزم