الْخطْبَة على الْعَادة. قَوْله:(فارتفع) أَي: مَرْوَان على الْمِنْبَر. قَوْله:(غيرتم) خطاب لمروان وَأَصْحَابه، أَي: غيرتم سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وخلفائه فَإِنَّهُم كَانُوا يقدمُونَ الصَّلَاة على الْخطْبَة. قَوْله:(مَا أعلم) أَي: الَّذِي أعلمهُ خير لِأَنَّهُ هُوَ طَرِيق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكيف يكون غَيره خيرا مِنْهُ؟ قَوْله:(وَالله) قسم معترض بَين الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر. قَوْله:(فجعلتها) أَي: الْخطْبَة، فالقرينة تدل على هَذَا، وَإِن لم يمض ذكر الْخطْبَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يخْطب فِي الْمصلى فِي الْعِيدَيْنِ وَهُوَ وَاقِف وَلم يكن على الْمِنْبَر وَلم يكن فِي الْمصلى فِي زَمَانه مِنْبَر، وَمُقْتَضى قَول أبي سعيد: إِن أول من اتخذ الْمِنْبَر فِي الْمصلى مَرْوَان، وَقد رَوَاهُ مُسلم أَيْضا من رِوَايَة عِيَاض:(عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يخرج يَوْم الْأَضْحَى. .) الحَدِيث، وَفِيه:(فَخرجت محاضرا مَرْوَان حَتَّى أَتَيْنَا الْمصلى، فَإِذا كثير بن الصَّلْت قد بنى منبرا من طين وَلبن. .) الحَدِيث. وَقد اخْتلف فِي أول من فعل ذَلِك. فَقيل: عمر بن الْخطاب، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) وَهُوَ شَاذ. وَقيل: عُثْمَان، وَلَيْسَ لَهُ أصل. وَقيل: مُعَاوِيَة، حَكَاهُ القَاضِي عِيَاض. وَقيل: زِيَاد بِالْبَصْرَةِ فِي خلَافَة مُعَاوِيَة، حَكَاهُ عِيَاض أَيْضا. بل الصَّوَاب أَن أول من فعله مَرْوَان بِالْمَدِينَةِ فِي خلَافَة مُعَاوِيَة، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي (الصَّحِيحَيْنِ) عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَإِنَّمَا اخْتصَّ كثير بن الصَّلْت بِبِنَاء الْمِنْبَر بالمصلى لِأَن دَاره كَانَت مجاورة بالمصلى على مَا يَجِيء فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَى فِي يَوْم الْعِيد إِلَى الْعلم الَّذِي عِنْد دَار كثير بن الصَّلْت. قَالَ ابْن سعيد: كَانَت دَار كثير بن الصَّلْت قبْلَة الْمصلى فِي الْعِيدَيْنِ وَهِي تطل على بطحان الْوَادي الَّذِي فِي وسط الْمَدِينَة. وَفِيه: الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَإِن كَانَ الْمُنكر عَلَيْهِ واليا، أَلا يرى أَن أَبَا سعيد كَيفَ أنكر على مَرْوَان وَهُوَ والٍ بِالْمَدِينَةِ. وَفِيه: أَن الصَّلَاة قبل الْخطْبَة، وَلِهَذَا أنكر أَبُو سعيد على مَرْوَان خطبَته قبل الصَّلَاة، وَمِمَّنْ قَالَ بِتَقْدِيم الصَّلَاة على الْخطْبَة: أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي والمغيرة وَأَبُو مَسْعُود وَابْن عَبَّاس، وَهُوَ قَول الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَأبي ثَوْر وَإِسْحَاق وَالْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَجُمْهُور الْعلمَاء، وَعند الْحَنَفِيَّة والمالكية: لَو خطب قبلهَا جَازَ وَخَالف السّنة وَيكرهُ، وَلَا يكره الْكَلَام عِنْدهَا. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: كَيفَ جَازَ لمروان تَغْيِير السّنة؟ قلت: تَقْدِيم الصَّلَاة فِي الْعِيد لَيْسَ وَاجِبا فَجَاز تَركه. وَقَالَ ابْن بطال: إِنَّه لَيْسَ تغييرا للسّنة لما فعل رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الْجُمُعَة، وَلِأَن الْمُجْتَهد قد يُؤَدِّي اجْتِهَاده إِلَى ترك الأولى إِذا كَانَ فِيهِ الْمصلحَة. انْتهى. قلت: حمل أَبُو سعيد فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على التَّعْيِين، وَحمله مَرْوَان على الْأَوْلَوِيَّة وَاعْتذر عَن ترك الأولى بِمَا ذكره من تغير حَال النَّاس، فَرَأى أَن الْمُحَافظَة على أصل السّنة وَهُوَ اسْتِمَاع الْخطْبَة أولى من الْمُحَافظَة على هَيْئَة لَيست من شَرطهَا. فَإِن قلت: وَقع عِنْد مُسلم من طَرِيق طَارق بن شهَاب، قَالَ: أول من بَدَأَ بِالْخطْبَةِ يَوْم الْعِيد قبل الصَّلَاة مَرْوَان، فَقَامَ إِلَيْهِ رجل فَقَالَ: الصَّلَاة قبل الْخطْبَة، فَقَالَ: قد ترك مَا هُنَالك. فَقَالَ أَبُو سعيد: أما هَذَا فقد قضى مَا عَلَيْهِ، وَهَذَا ظَاهر فِي أَنه غير أبي سعيد. قلت: أُجِيب بِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون هُوَ أَبَا مَسْعُود الَّذِي وَقع فِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق أَنه كَانَ مَعَهُمَا، وَيحْتَمل تعدد الْقَضِيَّة. فَإِن قلت: روى الشَّافِعِي عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد، قَالَ: حَدثنِي دَاوُد بن الْحصين عَن عبد الله بن يزِيد الخطمي: (أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَبا بكر وَعمر وَعُثْمَان كَانُوا يبدأون بِالصَّلَاةِ قبل الْخطْبَة حَتَّى قدم مُعَاوِيَة فَقدم مُعَاوِيَة الْخطْبَة) ، وَهَذَا يدل على أَن ذَلِك لم يزل إِلَى آخر زمن عُثْمَان، وَعبد الله صَحَابِيّ، وَإِنَّمَا قدم مُعَاوِيَة فِي حَال خِلَافَته. وَحَدِيث أبي سعيد هَذَا: أول من قدمهَا مَرْوَان. قلت: يُمكن الْجمع بِأَن مَرْوَان كَانَ أَمِيرا على الْمَدِينَة لمعاوية فَأمره مُعَاوِيَة بتقديمها، فنسب أَبُو سعيد التَّقْدِيم إِلَى مَرْوَان لمباشرته التَّقْدِيم، وَنسبه عبد الله إِلَى مُعَاوِيَة لِأَنَّهُ أَمر بِهِ. وَفِيه: بُنيان الْمِنْبَر، وَإِنَّمَا اخْتَارُوا أَن يكون بِاللَّبنِ والطين لَا من الْخشب لكَونه يتْرك بالصحراء فِي غير حرز فَلَا يخَاف عَلَيْهِ من النَّقْل، بِخِلَاف مَنَابِر الْجَوَامِع. وَفِيه: إِخْرَاج الْمِنْبَر إِلَى الْمصلى فِي الأعياد، قِيَاسا على الْبناء، وَعَن بَعضهم: لَا بَأْس بِإِخْرَاج الْمِنْبَر، وَعَن بَعضهم: كره بُنْيَانه فِي الْجَبانَة، ويخطب قَائِما أَو على دَابَّته. وَعَن أَشهب: إِخْرَاج الْمِنْبَر إِلَى الْعِيدَيْنِ وَاسع، وَعَن مَالك: لَا يخرج فيهمَا، من شَأْنه أَن يخْطب إِلَى جَانِبه، وَإِنَّمَا يخْطب على الْمِنْبَر الْخُلَفَاء. وَفِيه: إِن الْمِنْبَر لم يكن قبل بِنَاء كثير بن الصَّلْت. وَفِيه: مُوَاجهَة الْخَطِيب للنَّاس، وَأَنَّهُمْ بَين يَدَيْهِ. وَفِيه: