فَإِن فَائِدَة قَوْله {لم تؤمنوا} (الحجرات: ١٤) تَكْذِيب دَعوَاهُم وَقَوله: {وَلما يدْخل الايمان فِي قُلُوبكُمْ} (الحجرات: ١٤) تَوْقِيت لما امروا بِهِ ان يَقُولُوا، كَأَنَّهُ قيل لَهُم: وَلَكِن قُولُوا أسلمنَا، حِين لم تثبت مواطأة قُلُوبكُمْ لألسنتكم. النَّوْع الثَّالِث: قَالَ ابو بكر بن الطّيب: هَذِه الْآيَة حجَّة على الكرامية وَمن وافقهم من المرجئة فِي قَوْلهم: إِن الايمان هُوَ الْإِقْرَار بِاللِّسَانِ دون عقد الْقلب، وَقد رد الله تَعَالَى قَوْلهم فِي مَوضِع آخر من كِتَابه فَقَالَ: {أُولَئِكَ كتب فِي قُلُوبهم الايمان} (المجادلة: ٢٢) وَلم يقل: كتب فِي ألسنتهم، وَمن أقوى مَا يرد عَلَيْهِم بِهِ الْإِجْمَاع على كفر الْمُنَافِقين، وَإِن كَانُوا قد اظهروا الشَّهَادَتَيْنِ. النَّوْع الرَّابِع: أَن البُخَارِيّ اسْتدلَّ بِذكر هَذِه الْآيَة هَهُنَا على أَن الاسلام الْحَقِيقِيّ هُوَ الْمُعْتَبر وَهُوَ الْإِيمَان الَّذِي هُوَ عقد الْقلب الْمُصدق لإقرار اللِّسَان الَّذِي لَا ينفع عِنْد الله غَيره، أَلا ترى كَيفَ قَالَ تَعَالَى: {قل لم تؤمنوا} (الحجرات: ١٤) حَيْثُ قَالُوا بألسنتهم دون تَصْدِيق قُلُوبهم. وَقَالَ: {وَلما يدْخل الايمان فِي قُلُوبكُمْ} (الحجرات: ١٤) .
الْوَجْه السَّادِس: فِي قَوْله تَعَالَى: {ان الدّين عِنْد الله الاسلام} (آل عمرَان: ١٩) وَالْكَلَام فِيهِ على وُجُوه. الأول: ان هَذِه الْجُمْلَة مستأنفة مُؤَكدَة للجملة الاولى، وَهِي قَوْله تَعَالَى: {شهد الله أَنه لَا اله الا هُوَ} (آل عمرَان: ١٨) الْآيَة، وقرىء بِفَتْح: أَن، على الْبَدَلِيَّة من الأول، كَأَنَّهُ قَالَ: شهد الله أَن الدّين عِنْد الله الاسلام، وَقَرَأَ أبي بن كَعْب: ان الدّين عِنْد الله للاسلام، بلام التَّأْكِيد فِي الْخَبَر. الثَّانِي: قَالَ الْكَلْبِيّ: لما ظهر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِالْمَدِينَةِ قدم عَلَيْهِ حبران من أَحْبَار أهل الشَّام، فَلَمَّا أبصرا الْمَدِينَة قَالَ أَحدهمَا لصَاحبه: مَا أشبه هَذِه الْمَدِينَة بِصفة مَدِينَة النَّبِي الَّذِي يخرج فِي آخر الزَّمَان، فَلَمَّا دخلا على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعرفاه بِالصّفةِ والنعت قَالَا لَهُ: أَنْت مُحَمَّد؟ قَالَ: نعم. قَالَا: وَأَنت أَحْمد؟ قَالَ: نعم، قَالَا: إِنَّا نَسْأَلك عَن شَهَادَة، فَإِن أَنْت أخبرتنا بهَا آمنا بك وَصَدَّقنَاك. قَالَ لَهما رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (سلاني) . فَقَالَا: أخبرنَا عَن أعظم شَهَادَة فِي كتاب الله تَعَالَى، فَأنْزل الله تَعَالَى على نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: {شهد الله} الى قَوْله {ان الدّين عِنْد الله الاسلام} (آل عمرَان: ١٩) ؛ فَأسلم الرّجلَانِ وصدقا برَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام. الثَّالِث: ان البُخَارِيّ اسْتدلَّ بهَا على أَن الْإِسْلَام الْحَقِيقِيّ هُوَ الدّين، لِأَنَّهُ تَعَالَى أخبر أَن الدّين هُوَ الاسلام، فَلَو كَانَ غير الْإِسْلَام لما كَانَ مَقْبُولًا، وَاسْتدلَّ بهَا أَيْضا على أَن الْإِسْلَام والايمان وَاحِد، وأنهما مُتَرَادِفَانِ، وَهُوَ قَول جمَاعَة من الْمُحدثين، وَجُمْهُور الْمُعْتَزلَة والمتكلمين؛ وَقَالُوا أَيْضا: إِنَّه اسْتثْنى الْمُسلمين من الْمُؤمنِينَ فِي قَوْله تَعَالَى: {فأخرجنا من كَانَ فِيهَا من الْمُؤمنِينَ فَمَا وجدنَا فِيهَا غير بَيت من الْمُسلمين} (الذاريات: ٣٥) وَالْأَصْل فِي الِاسْتِثْنَاء أَن يكون الْمُسْتَثْنى من جنس الْمُسْتَثْنى مِنْهُ، فَيكون الْإِسْلَام هُوَ الْإِيمَان، وعورض بقوله تَعَالَى: {قل لم تؤمنوا وَلَكِن قُولُوا أسلمنَا} (الحجرات: ١٤) فَلَو كَانَ الْإِيمَان وَالْإِسْلَام وَاحِدًا لزم إِثْبَات شَيْء ونفيه فِي حَالَة وَاحِدَة، وانه محَال.
الْوَجْه السَّابِع فِي قَوْله تَعَالَى: {من يبتغ غير الاسلام دينا فَلَنْ يقبل مِنْهُ} (آل عمرَان: ١٩) وَالْكَلَام فِيهِ على وَجْهَيْن. الأول: فِي مَعْنَاهُ، فَقَوله: {وَمن يبتغ} (آل عمرَان: ١٩) اي: وَمن يطْلب، من بغيت الشَّيْء طلبته، وبغيتك الشَّيْء طلبته لَك يُقَال بغى بغية وبغاء بِالضَّمِّ وبغاية. قَوْله {فَلَنْ يقبل مِنْهُ} (آل عمرَان: ١٩) جَوَاب الشَّرْط. قَوْله: {هُوَ فِي الْآخِرَة من الخاسرين} (آل عمرَان: ١٩) اي: من الَّذين وَقَعُوا فِي الخسران مُطلقًا من غير تَقْيِيد، قصدا للتعميم. وقرىء وَمن يبتغ غير الاسلام، بالادغام. الثَّانِي: أَن البُخَارِيّ اسْتدلَّ بِهِ مثل مَا اسْتدلَّ بقوله: {ان الدّين عِنْد الله الاسلام} (آل عمرَان: ١٩) وَاسْتدلَّ بِهِ أَيْضا على اتِّحَاد الْإِيمَان وَالْإِسْلَام، لَان الْإِيمَان لَو كَانَ غير الْإِسْلَام لما كَانَ مَقْبُولًا. واجيب: بِأَن الْمَعْنى: وَمن يبتغ دينا غير دين مُحَمَّد، عَلَيْهِ السَّلَام، فَلَنْ يقبل مِنْهُ. قلت: ظَاهره يدل على أَنه لَو كَانَ الْإِيمَان غير الاسلام لم يقبل قطّ، فَتعين أَن يكون عينه، لَان الْإِيمَان هُوَ الدّين، وَالدّين هُوَ الاسلام، لقَوْله تَعَالَى: {ان الدّين عِنْد الله الاسلام} (آل عمرَان: ١٩) فينتج أَن الْإِيمَان هُوَ الْإِسْلَام، وَقد حققنا الْكَلَام فِيهِ فِيمَا مضى فِي أول كتاب الايمان.
٢٧ - حدّثنا أبُو اليَمَانِ قالَ أخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قالَ أخبْرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبى وَقَّاصٍ عَنْ سَعْدٍ رضى الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعْطَى رَهْطاً وَسَعْدٌ جَالِسٌ فَتَرَكَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَجُلاً هُوَ أعْجَبُهُمْ إلَيّ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ الله مَالَكَ عَنْ فُلَانٍ فَوَاللهِ إنّي لأَرَاِهُ مُؤْمِنَا فقالَ أوْ مُسْلِماً فَسَكَتُّ قَلِيلاً ثُم غَلَبَنِى مَا أعْلَمُ مِنْهُ فَعُدْتُ لِمَقَالَتِي فَقُلْتُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute