وَلَيْسَ بمجاز. فَإِن قلت: لم لَا يكون مجَازًا من بَاب إِطْلَاق الْمَلْزُوم وَإِرَادَة اللَّازِم إِذْ الْمُلَازمَة فِي الْكِنَايَة لَا بُد ان تكون مُسَاوِيَة؟ قلت: شَرط الْمجَاز امْتنَاع معنى الْمجَاز والحقيقة، وَهَهُنَا لَا امْتنَاع فِي اجْتِمَاع الْكفْر والكب، فَهُوَ كِنَايَة لَا غير. فَإِن قلت: الكب قد يكون للمعصية، فَلَا يسْتَلْزم الْكفْر. قلت: المُرَاد من الكب كب مَخْصُوص لَا يكون إلَاّ للْكَافِرِ، وإلَاّ فَلَا تصح الْكِنَايَة أَيْضا، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِن المُرَاد كب مَخْصُوص لَان معنى قَوْله: (خشيَة أَن يكبه الله فِي النَّار) مَخَافَة من كفره الَّذِي يُؤَدِّيه إِلَى كب الله إِيَّاه فِي النَّار، وَالضَّمِير فِي: يكبه، للرجل فِي قَوْله: (إِنِّي لأعطي الرجل) أَي: اتألف قلبه بالإعطاء مَخَافَة من كفره إِذا لم يُعْط، وَالتَّقْدِير: أَنا أعطي من فِي إيمَانه ضعف، لِأَنِّي أخْشَى عَلَيْهِ لَو لم أعْطه أَن يعرض لَهُ اعْتِقَاد يكفر بِهِ فيكبه الله تَعَالَى فِي النَّار، كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى الْمُؤَلّفَة أَو إِلَى من، إِذْ منع نسب الرَّسُول، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِلَى الْبُخْل، وَأما من قوي إيمَانه فَهُوَ أحب إِلَيّ فَأَكله إِلَى ايمانه وَلَا أخْشَى عَلَيْهِ رُجُوعا عَن دينه وَلَا سوء اعْتِقَاد، وَلَا ضَرَر فِيمَا يحصل لَهُ من الدُّنْيَا. وَالْحَاصِل ان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُوسع الْعَطاء لمن أظهر الْإِسْلَام تألفاً، فَلَمَّا أعْطى الرَّهْط وهم من الْمُؤَلّفَة، وَترك جعيلاً وَهُوَ من الْمُهَاجِرين، مَعَ أَن الْجَمِيع سَأَلُوهُ، خاطبه سعد، رَضِي الله عَنهُ، فِي أمره، لِأَنَّهُ كَانَ يرى أَن جعيلاً أَحَق مِنْهُم لما اختبر مِنْهُ دونهم، وَلِهَذَا رَاجع فِيهِ أَكثر من مرّة، فَنَبَّهَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بأمرين: احدهما: نبهه على الْحِكْمَة فِي إِعْطَاء أُولَئِكَ الرَّهْط، وَمنع جعيل مَعَ كَونه أحب إِلَيْهِ مِمَّن أعْطى، لانه لَو ترك إِعْطَاء الْمُؤَلّفَة لم يُؤمن ارتدادهم فيكبون فِي النَّار. وَالْآخر: نبهه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أَنه يَنْبَغِي التَّوَقُّف عَن الثَّنَاء بِالْأَمر الْبَاطِن دون الثَّنَاء بِالْأَمر الظَّاهِر. فَإِن قلت: كَيفَ لم يقبل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَهَادَة مثل سعد، رَضِي الله عَنهُ، لجعيل بالايمان؟ قلت: قَوْله: (فوَاللَّه، إِنِّي لاراه مُؤمنا) لم يخرج الشَّهَادَة، وَإِنَّمَا خرج مخرج الْمَدْح لَهُ، والتوسل فِي الطّلب لأَجله، فَلهَذَا ناقشه فِي لَفظه. وَفِي الحَدِيث مَا يدل على أَنه قبل قَوْله فِيهِ وَهُوَ قَوْله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (يَا سعد إِنِّي لاعطي الرجل) الخ. وَمِمَّا يدل على ذَلِك مَا رُوِيَ فِي مُسْند مُحَمَّد بن هَارُون الرَّوْيَانِيّ وَغَيره، بِإِسْنَادِهِ صَحِيح إِلَى أبي سَالم الجيشاني: (عَن أبي ذَر، رَضِي الله عَنهُ، أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ لَهُ: كَيفَ ترى جعيلا؟ قَالَ: قلت: كشكله من النَّاس، يَعْنِي الْمُهَاجِرين. قَالَ: فَكيف ترى فلَانا؟ قَالَ: قلت: سيداً من سَادَات النَّاس. قَالَ: فجعيل خير من مَلأ الأَرْض من فلَان. قَالَ: قلت: ففلان هَكَذَا وانت تصنع بِهِ مَا تصنع! قَالَ: إِنَّه رَأس قومه. فَأَنا أتألفهم بِهِ) . انْتهى فَهَذِهِ منزلَة جعيل، رَضِي الله عَنهُ، عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك علم أَن حرمانه وَإِعْطَاء غَيره كَانَ لمصْلحَة التَّأْلِيف.
بَيَان استنباط الاحكام: وَهُوَ على وُجُوه. الأول: فِيهِ جَوَاز الشَّفَاعَة، إِلَى وُلَاة الْأَمر وَغَيرهم. الثَّانِي: فِيهِ مُرَاجعَة الْمَشْفُوع إِلَيْهِ فِي الْأَمر الْوَاحِد إِذا لم يؤد إِلَى مفْسدَة. الثَّالِث: فِيهِ الْأَمر بالتثبت وَترك الْقطع بِمَا لَا يعلم فِيهِ الْقطع. الرَّابِع: فِيهِ أَن الإِمَام يصرف الْأَمْوَال فِي مصَالح الْمُسلمين الأهم فالأهم. الْخَامِس: فِيهِ أَن الْمَشْفُوع إِلَيْهِ لَا عتب عَلَيْهِ اذا رد الشَّفَاعَة اذا كَانَت خلاف الْمصلحَة، السَّادِس: فِيهِ أَنه يَنْبَغِي أَن يعْتَذر إِلَى الشافع وَيبين لَهُ عذره فِي ردهَا. السَّابِع: فِيهِ أَن الْمَفْضُول يُنَبه الْفَاضِل على مَا يرَاهُ مصلحَة لينْظر فِيهِ الْفَاضِل. الثَّامِن: فِيهِ أَنه لَا يقطع لأحد على التَّعْيِين بِالْجنَّةِ إلَاّ من ثَبت فِيهِ النَّص، كالعشرة المبشرة بِالْجنَّةِ. التَّاسِع: فِيهِ أَن الْإِقْرَار بِاللِّسَانِ لَا ينفع إلَاّ إِذا اقْترن بِهِ الِاعْتِقَاد بِالْقَلْبِ، وَعَلِيهِ الْإِجْمَاع، وَلِهَذَا كفر المُنَافِقُونَ. وَاسْتدلَّ بِهِ جمَاعَة على جَوَاز قَول الْمُسلم: أَنا مُؤمن، مُطلقًا من غير تَقْيِيده بقوله: ان شَاءَ الله تَعَالَى. قَالَ القَاضِي: فِيهِ حجَّة لمن يَقُول بِجَوَاز قَوْله: أَنا مُؤمن، من غير اسْتثِْنَاء، ورد على من أَبَاهُ. وَقد اخْتلف فِيهَا من لدن الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم، إِلَى يَوْمنَا هَذَا، وكل قَول إِذا حقق كَانَ لَهُ وَجه، فَمن لم يسْتَثْن أخبر عَن حكمه فِي الْحَال، وَمن اسْتثْنى أَشَارَ إِلَى غيب مَا سبق لَهُ فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ، وَإِلَى التَّوسعَة فِي الْقَوْلَيْنِ ذهب الْأَوْزَاعِيّ وَغَيره، وَهُوَ قَول أهل التَّحْقِيق نظرا إِلَى مَا قدمْنَاهُ، ورفعا للْخلاف. الْعَاشِر: قَالُوا: فِيهِ دَلِيل على جَوَاز الْحلف على الظَّن، وَهِي: يَمِين اللَّغْو، وَهُوَ قَول مَالك وَالْجُمْهُور. قلت: قد اخْتلف الْعلمَاء فِي يَمِين اللَّغْو على سِتَّة اقوال: أَحدهَا: قَول مَالك كَمَا ذَكرُوهُ عَنهُ، وَقَالَ الشَّافِعِي: هِيَ أَن يسْبق لِسَانه إِلَى الْيَمين من غير أَن يقْصد الْيَمين، كَقَوْل الْإِنْسَان: لَا وَالله وبلى وَالله وَاسْتدلَّ بِمَا رُوِيَ عَن عائشةِ رَضِي الله عَنْهَا، مَرْفُوعا: (إِن لَغْو الْيَمين قَول الْإِنْسَان لَا وَالله وبلى وَالله) . وَحكى ذَلِك مُحَمَّد عَن أبي حنيفَة، رَضِي الله عَنهُ، وَأما الْمَشْهُور عِنْد أَصْحَابنَا أَن: لَغْو الْيَمين هُوَ الْحلف على أَمر يَظُنّهُ كَمَا قَالَ، وَالْحَال أَنه خِلَافه
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute