الدَّلِيل على أَن عبد الله بن بُرَيْدَة عاصر عمرَان، كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب. قَوْله: (وَكَانَ ميسورا) ، بِسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة بعْدهَا سين مُهْملَة، أَي: كَانَ معلولاً بالباسور، وَهُوَ عِلّة تحدث فِي المقعدة. وَفِي (التَّلْوِيح) : الْبَاسُور، بِالْبَاء الْمُوَحدَة مثل: الناسور بالنُّون، وَهُوَ الْجرْح الفاذ، أعجمي، يُقَال: تنسر الْجرْح تنفض وانتشرت مدَّته، وَيُقَال: ناسور وناصور عربيان، وَهُوَ القرحة الْفَاسِدَة الْبَاطِن الَّتِي لَا تقبل الْبُرْء مَا دَامَ فِيهَا ذَلِك الْفساد، حَيْثُ كَانَت فِي الْبدن، فَأَما الْبَاسُور بِالْبَاء الْمُوَحدَة فَهُوَ ورم المقعدة وباطن الْأنف. قلت: الْبَاسُور وَاحِد البواسير، وَهُوَ فِي عرف الْأَطِبَّاء نفاطات تحدث على نفس المقعدة ينزل مِنْهَا كل وَقت مَادَّة. قَوْله: (قَاعِدا) فِي الْمَوْضِعَيْنِ، (وَقَائِمًا) و (نَائِما) : أَحْوَال. قَوْله: (وَمن صلى نَائِما) بالنُّون من النّوم أَي: مُضْطَجعا على هَيْئَة النَّائِم، يدل عَلَيْهِ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فَإِن لم تستطع فعلى جنب) ، وَترْجم لَهُ النَّسَائِيّ: بَاب صَلَاة النَّائِم، وَيدل عَلَيْهِ أَيْضا مَا رَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) : حَدثنَا عبد الْوَهَّاب الْخفاف عَن سعيد عَن حُسَيْن الْمعلم، قَالَ: وَقد سمعته عَن حُسَيْن عَن عبد الله ابْن بُرَيْدَة (عَن عمرَان بن حُصَيْن، قَالَ: كنت رجلا ذَا أسقام كَثِيرَة، فَسَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن صَلَاتي قَاعِدا؟ فَقَالَ: صَلَاتك قَاعِدا على النّصْف من صَلَاتك قَائِما، وَصَلَاة الرجل مُضْطَجعا على النّصْف من صلَاته قَاعِدا) انْتهى. هَذَا يُفَسر أَن معنى قَوْله: (نَائِما) بالنُّون يَعْنِي: مُضْطَجعا، وَأَنه فِي حق من بِهِ سقم بِدلَالَة قَوْله: (كنت رجلا ذَا أسقام كَثِيرَة) ، وَأَن ثَوَاب من يُصَلِّي قَاعِدا نصف ثَوَاب من يُصَلِّي قَائِما، وثواب من يُصَلِّي مُضْطَجعا نصف ثَوَاب من يُصَلِّي قَاعِدا. وَقَالَ الْخطابِيّ: وَأما قَوْله: (وَمن صلى نَائِما فَلهُ نصف أجر الْقَاعِد) ، فَإِنِّي لَا أعلم أَنِّي سمعته إلاّ فِي هَذَا الحَدِيث، وَلَا أحفظ من أحد من أهل الْعلم أَنه رخص فِي صَلَاة التَّطَوُّع نَائِما، كَمَا رخصوا فِيهَا قَاعِدا، فَإِن صحت هَذِه اللَّفْظَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم يكن من كَلَام بعض الروَاة أدرجه فِي الحَدِيث وقاسه على صَلَاة الْقَاعِد أَو اعْتَبرهُ بِصَلَاة الْمَرِيض نَائِما إِذا لم يقدر على الْقعُود، فَإِن التَّطَوُّع مُضْطَجعا للقادر على الْقعُود جَائِز، كَمَا يجوز أَيْضا للْمُسَافِر إِذا تطوع على رَاحِلَته، فَأَما من جِهَة الْقيَاس فَلَا يجوز لَهُ أَن يُصَلِّي مُضْطَجعا، كَمَا يجوز لَهُ أَن يُصَلِّي قَاعِدا، لِأَن الْقعُود شكل من أشكال الصَّلَاة وَلَيْسَ الِاضْطِجَاع فِي شَيْء من أشكال الصَّلَاة، وَادّعى ابْن بطال أَن الرِّوَايَة: (من صلى بإيماء) ، على أَنه جَار ومجرور وَأَن الْمَجْرُور مصدر: أَوْمَأ، قَالَ: وَقد غلط النَّسَائِيّ فِي حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن وصحفه وَترْجم لَهُ: بَاب صَلَاة النَّائِم، فَظن أَن قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من صلى بإيماء) ، إِنَّمَا هُوَ من صلى نَائِما. قَالَ: والغلط فِيهِ ظَاهر لِأَنَّهُ قد ثَبت عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه أَمر الْمُصَلِّي إِذا غَلبه النّوم أَن يقطع الصَّلَاة ثمَّ بَين صلى الله عَلَيْهِ وَسلم معنى ذَلِك، فَقَالَ: (لَعَلَّه لم يسْتَغْفر فيسب نَفسه) ، فَكيف يَأْمُرهُ بِقطع الصَّلَاة وَهِي مُبَاحَة لَهُ؟ وَله عَلَيْهَا نصف أجر الْقَاعِد؟ قَالَ: وَالصَّلَاة لَهَا ثَلَاثَة أَحْوَال: أَولهَا الْقيام، فَإِن عجز عَنهُ فالقعود، ثمَّ إِن عجز عَنهُ فالإيماء، وَلَيْسَ النّوم من أَحْوَال الصَّلَاة. انْتهى.
وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين: أما نفي الْخطابِيّ وَابْن بطال للْخلاف فِي صِحَة التَّطَوُّع مُضْطَجعا للقادر فمردود، فَإِن فِي مَذْهَبنَا وَجْهَيْن: الْأَصَح مِنْهُمَا الصِّحَّة، وَعند الْمَالِكِيَّة فِيهِ ثَلَاثَة أوجه حَكَاهَا القَاضِي عِيَاض فِي (الْإِكْمَال) : أَحدهَا الْجَوَاز مُطلقًا فِي الاضطراار، وَالِاخْتِيَار للصحيح وَالْمَرِيض لظَاهِر الحَدِيث، وَهُوَ الَّذِي صدر بِهِ القَاضِي كَلَامه. وَالثَّانِي: مَنعه مُطلقًا لَهما، إِذْ لَيْسَ فِي هَيْئَة الصَّلَاة. وَالثَّالِث: إِجَازَته لعدم قُوَّة الْمَرِيض فَقَط، وَقد روى التِّرْمِذِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ جَوَازه حَيْثُ قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن بشار حَدثنَا ابْن أبي عدي عَن أَشْعَث بن عبد الْملك (عَن الْحسن، قَالَ: إِن شَاءَ الرجل صلى صَلَاة التَّطَوُّع قَائِما أَو جَالِسا أَو مُضْطَجعا) فَكيف يَدعِي مَعَ هَذَا الْخلاف الْقَدِيم والْحَدِيث الِاتِّفَاق؟ وَأما مَا ادَّعَاهُ ابْن بطال عَن النَّسَائِيّ من أَنه صحفه فَقَالَ: نَائِما، وَإِنَّمَا الرِّوَايَة: بإيماء، على الْجَار وَالْمَجْرُور، فَلَعَلَّ التَّصْحِيف من ابْن بطال: وَإِنَّمَا أَلْجَأَهُ إِلَى ذَلِك حمل قَوْله: (نَائِما) على النّوم حَقِيقَة الَّذِي أَمر الْمُصَلِّي إِذا وجده أَن يقطع الصَّلَاة، وَلَيْسَ المُرَاد هَهُنَا إلاّ الِاضْطِجَاع لمشابهته لهيئة النَّائِم، وَحكى القَاضِي عِيَاض فِي الْإِكْمَال) : أَن فِي بعض الرِّوَايَات: مُضْطَجعا، مَكَان: نَائِما، وَبِه فسره أَحْمد بن خَالِد الْوَهْبِي، فَقَالَ: نَائِما، يَعْنِي: مُضْطَجعا. وَقَالَ شَيخنَا: وَبِه فسره البُخَارِيّ فِي (صَحِيحه) فَقَالَ، بعد إِيرَاده للْحَدِيث: قَالَ أَبُو عبد الله: نَائِما عِنْدِي مُضْطَجعا، وَقَالَ أَيْضا: وَقد بوب عَلَيْهِ النَّسَائِيّ: فضل صَلَاة الْقَاعِد على النَّائِم، وَلم أر فِيهِ: بَاب صَلَاة النَّائِم، كَمَا نَقله ابْن بطال.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا الحَدِيث مَحْمُول عِنْد بعض أهل الْعلم على صَلَاة التَّطَوُّع قلت: كَذَلِك
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute